فجأة، تذكرت القوى السياسية المسيحية
وجود مقاتلين قدامى وراحت تسعى إلى كسب ودّهم. قبلها وبعدها كانت تسابق بعضها
بعضاً على نسب بطولات الحرب إليها، من خلال إعلائها صور "الشهداء" الذين
قضوا أثناءها. هو التنافس المسيحي على قسمة إرث الحرب.
استقطاب مقاتل سابق يختلف عن استقطاب
مواطن عادي. هو استقطاب للتاريخ، وبالتحديد لتاريخ المشاركة المسيحية في الحرب.
وهو محاولة لمدّ غطاء شرعية الماضي "البطولي" على الحاضر "المحبط".
أما الحديث عن بطولات "الشهداء" وتاريخ معاركهم الناصع، فالهدف منه
الإيحاء بأن سياسيي اليوم هم استمرار لمقاتلي الأمس. وإذا ما افترضنا أن السياسيين
يعرضون ما يطلبه الجمهور فإن كل شيء يشهد على أن بعض المسيحيين يتوقون إلى الزمن
القديم.
"مَن واجه حرباً بحجم حرب زحلة
والأشرفية وكلّ ما حصل خلال الحرب في لبنان، ومن اجتاز الجرد من جهة الى جهة... لن
تُثنيه بعض الرصاصات"، قال رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية سمير
جعجع مصوّراً نفسه كبطل لا يُقهر. هذا البطل هو حفيد أبطال يطلّون بذكراهم من
الأزمنة الغابرة. "انطلاقة القوات لم تبدأ اليوم، ولا حتى في العام 1975، بل
بدأت مع أجدادنا الذين اكتشفوا باكراً، أن الخنوع والانبطاح أمام الظالم، لا يزيده
إلا ظلماً وتجبراً وتعجرفاً"، روى في احتفال الحزب بتنسيب دفعة من الأعضاء.
إنها القوات اللبنانية التي تجسّد بطولات الشهداء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
"القوات لا يمكن أن تكون إلا على صورة بشير الجميل وآلاف آلاف الشهداء، مثل
حد السيف ثابتة"، يؤكد جعجع.
انتبه حزب الكتائب إلى مردودية خطاب
الدفاع عن الماضي. قام بدايةً بتكريم قادة وعناصر "وحدات مغاوير المقاومة
اللبنانية"، في حضور أحد قادتها إبراهيم حداد (بوب حداد) وعدد كبير من قادة
وعناصر وحدة المغاوير. "إن مقاومة حزب الكتائب ومقاومة المغاوير، كانت دوماً
معركة دفاع عن وجودنا ولن نسمح لأحد بأن يشوهها بأيّ شكل من الأشكال"، قال
النائب سامي الجميّل في المناسبة، مضيفاً أن "أي مساس بذكرى المقاومة
وبتضحياتها ونضالها، هو إفشال لأي محاولة عيش مشترك بين اللبنانيين".
بعدها بفترة وجيزة، استقبل مقر
القيادة في بكفيا مسعود الأشقر (بوسي) لإلقاء محاضرة عن "المقاومة
المسيحية". ثم ما كان من الحزب إلا أن أقام احتفالاً تكريمياً لـ150 عنصراً
من قادة وأفراد فرقة الكومندوس والـ"ب.ج". كان من ضمن المكرمين: فؤاد
ابو ناضر، سامي خويري، جورج قزي، جوسلين خويري، فادي خويري، مارون مشعلاني، جورج
رشدان، مسعود مراد، جورج روحانا، جورج فوريدوس. في كلمته، أكد القائد السابق
للقوات اللبنانية فؤاد أبو ناضر "أن الأهم في ما يحصل اليوم هو المحافظة على
الذاكرة والتاريخ الذي نفخر به ". ما هو هذا التاريخ؟ "حزب الكتائب لم
يخض إلا المعارك الصحيحة".
قرر الكتائبيون العودة إلى الماضي
والإنطلاق منه. مؤخراً اختير للقاعة التي أسست في مقرّ النائب سامي الجميّل في
بكفيا، بهدف استقبال الوفود الشعبية، إسم الشهيد أمين أسود. أسود هو شهيد من فرقة
الـ"ب.ج" وتوفي عن عمر 18 سنة في إحدى معارك الأسواق التجارية.
وقبل حوالى سنة من هذه التكريمات، مشى
النائب نديم الجميّل مع عدد من الرفاق من منطقة الزعرور إلى زحلة وهم يرتدون
اللباس العسكري. أتى ذلك في مناسبة ذكرى شهداء حصار زحلة في نيسان 1981.
التيار الوطني الحرّ لا يستطيع ممارسة
هذه اللعبة كما منافسيه المسيحيين. فبطولات الجنرال سطرها باسم الجيش اللبناني ولا
يمكن ردّها إلى المجتمع المسيحي حصراً. ولكن ميشال عون يصرّ على "أن
نراجع معاً أهم المحطات، كي تبقى في ذاكرتنا الجماعية". يعدد "الأهداف
التي من أجلها قاتلنا وحمل كل منا صليبه، مدة أربعة وعشرين عاماً" ومن ضمنها
أعمال "زعران" ميليشيا القوات.
النجم المسيحي المنبعث من الماضي في
الآونة الأخيرة هو بدون منازع حنا العتيق (الحنون)، القائد السابق لفرقة الصدم في
القوات اللبنانية. بسلاح شرعية الماضي أراد أن ينافس زعامة معراب مؤسساً
"الحركة التصحيحية" وساعياً إلى تجميع القواتيين القدامى. عتبه الأساسي،
غير الشخصي، على جعجع هو أنه وافق على اتفاق الطائف. برأي الحنون، "المقاومة
إما أن تنتصر وإما أن تهزم"، والطائف لم يكن نصراً. حاضراً، يرى أن على
القوات لعب أدوار متعددة تبدأ بالاجتماعي وتمر بالرعائي وبالحث على
"التكاثر" في لبنان وصولاً إلى "الدور الأمني في البلد" في
حال توقفت المؤسسات الأمنية عن لعب دورها.
في تقريره المفصل إلى البابا فرنسيس
عن أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط، اعتبر البطريرك مار بشارة الراعي أن
"مسيحيي الشرق لديهم دور كبير لتأديته في سبيل ضمان الاعتدال الإسلامي".
معه حق، ولكنه يجب أن ينتبه إلى أن المسيحيين ينحون شيئاً فشيئاً نحو اللا اعتدال،
وحديثه يبدو من خارج الواقع المسيحي المُعاش.
نشر في www.almodon.com
في 2/6/2013