بين استعراض تراث بيروت من خلال دراسة عائلة بيروتية نموذجية وبين التعرّف على معالم "البيت البيروتي التقليدي" وبين استذكار وقائع تستعيد نتفاً من ماضي العيش المشترك بين مسلمي بيروت ومسيحييها دارت أعمال الندوة التي نظمها "مركز التراث اللبناني" في الجامعة اللبنانية الأميركية وذلك مساء الإثنين الماضي في كلية الإدارة والأعمال في الجامعة.
أول ما يلفت النظر في القاعة هو عمر الحضور. أكثرية المهتمين بموضوع الندوة المعقودة تحت عنوان "بيروت... بيروت... وتلك الذكريات/ وجوه ومرويات من تاريخ بيروت أعلاماً وعلامات" هم ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين سنة أما توزيعهم الجندري فهو متوازن. طبيعة الحضور تعكس تأسّي الأجيال القديمة على مدينة ضاع كثير من معالمها وملامحها فيما يبدو أن الأجيال الجديدة تعيش سرعة المتغيّرات دون أن تتمسّك بأي مقياس نوستالجي، إن جاز التعبير، في نظرتها إلى المدينة.
ملامح نوستالجية
"ملامح نوستالجية من تراث بيروت أيّام زمان" هو عنوان مداخلة المتحدث الثاني في الندوة، المحامي عبد اللطيف فاخوري. صاحب كتابي "البيارتة" و"منزول بيروت" بدأ من مكان لا يمكن لأحد توقعه. بدأ باستذكار موت أفراد الجيش المصري عندما قدموا إلى الشام في منتصف القرن التاسع عشر بمرض سُمّي "النوستالجي". كان همّ فاخوري، في عرضه، أن يسترجع ملامح العيش المشترك بين أبناء بيروت المسلمين والمسيحيين وكأن ماضي هذا العيش هو أكثر ما يفتقده في بيروت الآن.
"لم يُعرف عن أهل بيروت أنهم اختلفوا حول هوية طائفية أو مذهبية أو مناطقية. تراثهم يميل إلى التحلّي بمكارم الأخلاق التي كرّستها الأديان". هذه هي فرضيته وكل ما سيأتي لاحقاً ليس سوى استعراض وقائع ينبشها فاخوري ليؤكد عليها.
استذكر فاخوري كيف كان البيارتة يستعيرون دار أبو عسكر الفسيحة ليقيموا فيها بعض مناسباتهم كحفلات الزواج أو إحياء المولد النبوي الشريف. أبو عسكر هذا هو يونس نقولا الجبيلي. استعاد انعكاسات الفتنة الطائفية بين الدروز والمسيحيين، عام 1860، على بيروت. عرض لموقف الشيخ محمد الحوت حين حذّر بعض البيارتة المتحمّسين من أن امتداد الفتنة إلى بيروت سيمنح الأجانب ذريعة للتدخل. تحدّث عن لجوء مسيحيي الجبل إلى بيروت وعن ردّ المسيحيين للجميل باستقبال نواحيهم القائمة على أطراف المدينة البيارتة حين قصف الأسطول الإيطالي بيروت، عام 1912، وعن موقف مطران بيروت الذي حثّ المسيحيين على الترحيب بالمسلمين النازحين.
فاخوري تطرّق إلى الجانب الإيجابي من الحروب الصليبية أي إلى احتكاك الثقافة المحلية بثقافة الغرب وما كان له من انعكاسات إجتماعية ولّدت تلاقحاً بين ثقافتين: "نشأت منطقة وسطى ضمّت مزيجاً من التراثين الإسلامي والمسيحي". تعرّف المسيحيون على إحياء المسيحيين لعيد الميلاد فصاروا يحيون المولد النبوي الشريف. عادة "الأبولة" البيروتية، وهي عادة إشعال حزمات من الحطب في المولد النبوي، وُلدت من مشاهدة المسلمين المسيحيين وهم يرفعون المشاعل في عيد الغطاس. أسماء البيارتة المركّبة التي تحتوي على إسم النبي هي نتيجة تبرّك المسيحيين باسم أحد القديسين مع اسم أولادهم. يختم العلامة إبن حجر الهيثمي كتابه "قصة المولد النبوي"، الذي كان يدرّس في القرن التاسع عشر، بعبارة "أبد الآبدين ودهر الداهرين" وهي العبارة المستخدمة في الصلوات في الكنائس...
من العام انتقل فاخوري إلى الخاص. روى وقائع مولد أبيه في حيّ داود عمّون وتقاطر الجارات المسيحيات إلى دارة أهله لتهنئة والدته. صادف وقوع ذلك عيد الميلاد فكان أن سُمّي والده مصطفى ميلاد. في ختام مداخلته، عاد فاخوري إلى النوستالجيا مستعيراً من الشيخ ناصيف اليازجي قوله "تُرى ليالينا تعود/ مثل الزمان الأول؟".
بيروت "أفندي الغَلْغُول"
بعد تقديم مدير "مركز التراث اللبناني" الشاعر هنري زغيب للمشاركيْن، كانت البداية مع الدكتور نادر سراج ومشاركته بعنوان "أهمية المصادر غير التقليدية في عملية جمع التراث/ "أفندي الغلغول" وتراث بيروت القديم نموذجاً". سراج قام بفتح "نافذة انثروبولوجية" على تاريخ المدينة من خلال تتبع سيرة "أفندي الغلغول".
في مداخلته القيّمة، سار سراج على خطين متوازيين. أوضح منهجية بحثه وفي الوقت نفسه خلص إلى استنتاجات تستعيد بعض جوانب تراث المدينة. من خلال سيرة عائلة نموذجية (آل الجمّال) يقوم الباحث بدراسة بيروت. "أفندي الغلغول" هو هاشم علي حسين الجمّال الذي شيّد منزلاً بيروتياً تقليدياً في منطقة الغلغول (المنطقة الممتدة بين مبنيي الإسكوا واللعازارية) في منتصف القرن التاسع عشر. يلاحق سراج التبدلات التي طرأت على عائلة الأفندي والتي تنضوي ضمن إطار التغيّرات التي عرفتها المدينة.
"أفندي الغلغول"، الموظف في دوائر الدولة العثمانية، كان إحدى الشخصيات الـ25 التي أسست "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية". بعد تعيينه رئيساً لبلدية صيدا، راح يتنقّل بين مدينتي بيروت وصيدا حيث شيّد منزله الثاني بعد منزله الأول القائم في "زاروب الجمّال".
في كتابه عن "أفندي الغلغول"، اعتمد سراج كثيراً على الروايات الشفهية لأن ما كُتب عن هذه الشخصية قليل. استند إلى مرويات سمعها من والدته (حفيدة الأفندي) وسجلها في ذاكرته، وإلى مقابلات أجراها مع آخر أحفاده. إلى هذه المرويات، استخلص معلومات مكمّلة من مصادر أخرى كوثائق ومراسلات بين الأفندي وأولاده، بطاقات بريدية، كتب عثمانية توثق بعض أحوال نواحي السلطنة وقاطنيها...
من الصور الفوتوغرافية التي تُظهر الأفندي وأفراد عائلته استخلص بعضاً من التحوّلات التي طرأت على العائلة وعلى المجتمع البيروتي. في صورة تعود إلى العام 1863، يظهر الأفندي شاباً يافعاً يرتدي لباساً عثمانياً خالصاً. في صورة أحدث يظهر معتمراً "الشاشية" (نوع من الطربوش) وفي آخر أيامه يظهر مرتدياً بذلة وربطة عنق. أما زوجته التركية الأصل فهي تظهر في صورة تعود إلى العام 1880 لا تخفي فيها كامل شعرها مع أنها جالسة أمام مصوّر أجنبي.
أولاد الأفندي يظهرون متحلّقين حول والدهم الذي يتوسطهم في وضعية شبه عسكرية ثم يظهرون لوحدهم، في صورة التقطوها لأنفسهم في الآستانة حيث ذهبوا لاستكمال تحصيلهم العلمي بعد فترة قضوها في المدرسة الرشدية في البسطا. هكذا كان حال البيارتة الذين يريدون الاستمرار في التحصيل العلمي. بعد الصور الجامعة، عرض سراج صور الأولاد فرادى ليظهر تشتتهم في أرجاء السلطنة بين القدس وليبيا وبيروت.
سراج تطرق إلى ميول البعض الاجتماعية كانتماء إبن الأفندي المعمّم وابن أخيه الصيدلي إلى الحركة الماسونية التي كانت، في وعي أبناء المدينة، تعني الانفتاح. أما في زمن لبنان الكبير فقد أورد ملاحظة وحيدة ولكنها قيّمة: كان البيارتة يقصّون من تذاكر هويتم القسم الأعلى الذي يشير إلى دولة لبنان الكبير وذلك اعتراضاً على فصلهم عن السلطنة.
المشاركتين كانتا قيّمتين وأعادتا الحضور إلى زمن بيروت القديمة. الحضور كان سعيداً باستعادة الذكريات حتى أن بعضه كان يصفّق حين ترد فكرة تؤكد على ماضي العيش المشترك بين أبناء المدينة المتنوّعين. كل ما في القاعة كان نوستالجياً.
أول ما يلفت النظر في القاعة هو عمر الحضور. أكثرية المهتمين بموضوع الندوة المعقودة تحت عنوان "بيروت... بيروت... وتلك الذكريات/ وجوه ومرويات من تاريخ بيروت أعلاماً وعلامات" هم ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين سنة أما توزيعهم الجندري فهو متوازن. طبيعة الحضور تعكس تأسّي الأجيال القديمة على مدينة ضاع كثير من معالمها وملامحها فيما يبدو أن الأجيال الجديدة تعيش سرعة المتغيّرات دون أن تتمسّك بأي مقياس نوستالجي، إن جاز التعبير، في نظرتها إلى المدينة.
ملامح نوستالجية
"ملامح نوستالجية من تراث بيروت أيّام زمان" هو عنوان مداخلة المتحدث الثاني في الندوة، المحامي عبد اللطيف فاخوري. صاحب كتابي "البيارتة" و"منزول بيروت" بدأ من مكان لا يمكن لأحد توقعه. بدأ باستذكار موت أفراد الجيش المصري عندما قدموا إلى الشام في منتصف القرن التاسع عشر بمرض سُمّي "النوستالجي". كان همّ فاخوري، في عرضه، أن يسترجع ملامح العيش المشترك بين أبناء بيروت المسلمين والمسيحيين وكأن ماضي هذا العيش هو أكثر ما يفتقده في بيروت الآن.
"لم يُعرف عن أهل بيروت أنهم اختلفوا حول هوية طائفية أو مذهبية أو مناطقية. تراثهم يميل إلى التحلّي بمكارم الأخلاق التي كرّستها الأديان". هذه هي فرضيته وكل ما سيأتي لاحقاً ليس سوى استعراض وقائع ينبشها فاخوري ليؤكد عليها.
استذكر فاخوري كيف كان البيارتة يستعيرون دار أبو عسكر الفسيحة ليقيموا فيها بعض مناسباتهم كحفلات الزواج أو إحياء المولد النبوي الشريف. أبو عسكر هذا هو يونس نقولا الجبيلي. استعاد انعكاسات الفتنة الطائفية بين الدروز والمسيحيين، عام 1860، على بيروت. عرض لموقف الشيخ محمد الحوت حين حذّر بعض البيارتة المتحمّسين من أن امتداد الفتنة إلى بيروت سيمنح الأجانب ذريعة للتدخل. تحدّث عن لجوء مسيحيي الجبل إلى بيروت وعن ردّ المسيحيين للجميل باستقبال نواحيهم القائمة على أطراف المدينة البيارتة حين قصف الأسطول الإيطالي بيروت، عام 1912، وعن موقف مطران بيروت الذي حثّ المسيحيين على الترحيب بالمسلمين النازحين.
فاخوري تطرّق إلى الجانب الإيجابي من الحروب الصليبية أي إلى احتكاك الثقافة المحلية بثقافة الغرب وما كان له من انعكاسات إجتماعية ولّدت تلاقحاً بين ثقافتين: "نشأت منطقة وسطى ضمّت مزيجاً من التراثين الإسلامي والمسيحي". تعرّف المسيحيون على إحياء المسيحيين لعيد الميلاد فصاروا يحيون المولد النبوي الشريف. عادة "الأبولة" البيروتية، وهي عادة إشعال حزمات من الحطب في المولد النبوي، وُلدت من مشاهدة المسلمين المسيحيين وهم يرفعون المشاعل في عيد الغطاس. أسماء البيارتة المركّبة التي تحتوي على إسم النبي هي نتيجة تبرّك المسيحيين باسم أحد القديسين مع اسم أولادهم. يختم العلامة إبن حجر الهيثمي كتابه "قصة المولد النبوي"، الذي كان يدرّس في القرن التاسع عشر، بعبارة "أبد الآبدين ودهر الداهرين" وهي العبارة المستخدمة في الصلوات في الكنائس...
من العام انتقل فاخوري إلى الخاص. روى وقائع مولد أبيه في حيّ داود عمّون وتقاطر الجارات المسيحيات إلى دارة أهله لتهنئة والدته. صادف وقوع ذلك عيد الميلاد فكان أن سُمّي والده مصطفى ميلاد. في ختام مداخلته، عاد فاخوري إلى النوستالجيا مستعيراً من الشيخ ناصيف اليازجي قوله "تُرى ليالينا تعود/ مثل الزمان الأول؟".
بيروت "أفندي الغَلْغُول"
بعد تقديم مدير "مركز التراث اللبناني" الشاعر هنري زغيب للمشاركيْن، كانت البداية مع الدكتور نادر سراج ومشاركته بعنوان "أهمية المصادر غير التقليدية في عملية جمع التراث/ "أفندي الغلغول" وتراث بيروت القديم نموذجاً". سراج قام بفتح "نافذة انثروبولوجية" على تاريخ المدينة من خلال تتبع سيرة "أفندي الغلغول".
في مداخلته القيّمة، سار سراج على خطين متوازيين. أوضح منهجية بحثه وفي الوقت نفسه خلص إلى استنتاجات تستعيد بعض جوانب تراث المدينة. من خلال سيرة عائلة نموذجية (آل الجمّال) يقوم الباحث بدراسة بيروت. "أفندي الغلغول" هو هاشم علي حسين الجمّال الذي شيّد منزلاً بيروتياً تقليدياً في منطقة الغلغول (المنطقة الممتدة بين مبنيي الإسكوا واللعازارية) في منتصف القرن التاسع عشر. يلاحق سراج التبدلات التي طرأت على عائلة الأفندي والتي تنضوي ضمن إطار التغيّرات التي عرفتها المدينة.
"أفندي الغلغول"، الموظف في دوائر الدولة العثمانية، كان إحدى الشخصيات الـ25 التي أسست "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية". بعد تعيينه رئيساً لبلدية صيدا، راح يتنقّل بين مدينتي بيروت وصيدا حيث شيّد منزله الثاني بعد منزله الأول القائم في "زاروب الجمّال".
في كتابه عن "أفندي الغلغول"، اعتمد سراج كثيراً على الروايات الشفهية لأن ما كُتب عن هذه الشخصية قليل. استند إلى مرويات سمعها من والدته (حفيدة الأفندي) وسجلها في ذاكرته، وإلى مقابلات أجراها مع آخر أحفاده. إلى هذه المرويات، استخلص معلومات مكمّلة من مصادر أخرى كوثائق ومراسلات بين الأفندي وأولاده، بطاقات بريدية، كتب عثمانية توثق بعض أحوال نواحي السلطنة وقاطنيها...
من الصور الفوتوغرافية التي تُظهر الأفندي وأفراد عائلته استخلص بعضاً من التحوّلات التي طرأت على العائلة وعلى المجتمع البيروتي. في صورة تعود إلى العام 1863، يظهر الأفندي شاباً يافعاً يرتدي لباساً عثمانياً خالصاً. في صورة أحدث يظهر معتمراً "الشاشية" (نوع من الطربوش) وفي آخر أيامه يظهر مرتدياً بذلة وربطة عنق. أما زوجته التركية الأصل فهي تظهر في صورة تعود إلى العام 1880 لا تخفي فيها كامل شعرها مع أنها جالسة أمام مصوّر أجنبي.
أولاد الأفندي يظهرون متحلّقين حول والدهم الذي يتوسطهم في وضعية شبه عسكرية ثم يظهرون لوحدهم، في صورة التقطوها لأنفسهم في الآستانة حيث ذهبوا لاستكمال تحصيلهم العلمي بعد فترة قضوها في المدرسة الرشدية في البسطا. هكذا كان حال البيارتة الذين يريدون الاستمرار في التحصيل العلمي. بعد الصور الجامعة، عرض سراج صور الأولاد فرادى ليظهر تشتتهم في أرجاء السلطنة بين القدس وليبيا وبيروت.
سراج تطرق إلى ميول البعض الاجتماعية كانتماء إبن الأفندي المعمّم وابن أخيه الصيدلي إلى الحركة الماسونية التي كانت، في وعي أبناء المدينة، تعني الانفتاح. أما في زمن لبنان الكبير فقد أورد ملاحظة وحيدة ولكنها قيّمة: كان البيارتة يقصّون من تذاكر هويتم القسم الأعلى الذي يشير إلى دولة لبنان الكبير وذلك اعتراضاً على فصلهم عن السلطنة.
المشاركتين كانتا قيّمتين وأعادتا الحضور إلى زمن بيروت القديمة. الحضور كان سعيداً باستعادة الذكريات حتى أن بعضه كان يصفّق حين ترد فكرة تؤكد على ماضي العيش المشترك بين أبناء المدينة المتنوّعين. كل ما في القاعة كان نوستالجياً.
(نشر في now.mmedia.me في 10 نيسان 2014)