صورة المدونة

صورة المدونة

الأحد، 8 مارس 2015

ريما كركي كنموذج فاشل للمرأة القوية

كلما دخلت إلى فايسبوك أجد أحد الأصدقاء يشارك رابطاً لموضوع كُتب (وغالباً في موقع أجنبي) عن شجاعة ريما كركي في طلبها قطع الاتصال بضيفها غريب الشكل والمنطق هاني السباعي. منذ أن رأيت فيديو ما حصل بينهما كان رأيي مختلفاً جداً. ليس ثمة شجاعة ولا مَن يحزنون. لا بل بالعكس. كركي قدّمت مثالاً سيئاً جداً عن الإعلامي وعن المرأة بشكل عام.

فأولاً، حوّلت كركي برنامجها إلى ملعبٍ للسباعي وسمحت له بتحديد قواعد اللعبة وبفرض هيمنته عليها (ولا أعلم ما هي القيمة المضافة التي يمكن أن يقدّمها هكذا ضيف غير خلق "السوسبنس"). فهي قبلت بارتداء الحجاب كشرط لمشاركته في الحلقة، ولا يمكن أن نتخيّل سلبية أكثر من ذلك. لا بل أن السباعي قال علناً أنه اشترط للمشاركة في الحلقة، على الوسيط ابراهيم حربي، ألا تقاطعه كركي (إلغاء شخصيتها كمحاور) وهي لم تنفِ ذلك ولم تتفاجأ به.



وثانياً، لم تكتف كركي بالخضوع لسلطة السباعي العامة، بل خضعت لسلطته في التفاصيل. بظرف ثواني، أهانها مرّات عدّة وكانت تطلب منه إكمال الحلقة. لم "تنتفض" إلا بعدما تمادى السباعي في إهانتها بشكل فجّ وأغلق كل نافذة أمام احتفاظها بالقليل من الكرامة أمام المشاهدين وخاصةً حين تهجّم عليها بشكل شخصي. حينها وحينها فقط اضطرت لطلب قطع الاتصال معه.

كركي فشلت في إدارة إهانتها على الهواء. هذا كل ما في الأمر. لو أنها نجحت في إدارة إهانتها لكانت استمرت في تلقي الإهانات وهذا ما حاولته جاهدة ولكنها فشلت. الإشكال كان سريعاً جداً وأخفى طبيعة ما حصل. ردّت على أول إهانة بـ:"نحن نحترم حضرتك" وبـ"تفضّل". وردت على ثاني إهانة بأنها تقاطعه (تحاوره؟) لـ"أخدم إجابتك" وبـ"تفضّل". ولم تثر ثائرتها إلا عندما قال لها "اسكتي"، رافضاً تلقف مبادراتيْ كركي لتمرير إهانتها بشكل سلس.

تدرّج ردّ فعل كركي من نموذج المرأة المطيعة دون نقاش، إلى نموذج المرأة المفاوضة التي تقبل في النهاية بقرار الرجل، وصولاً إلى نموذج المرأة القوية التي ترفض إهانتها. من غير المنطقي أن يكون لها 3 شخصيات. إن عدنا إلى الأساس، أي إلى قبولها بارتداء الحجاب كشرط لمشاركة السباعي في برنامجها، لا يمكن أن نقول إلا أن كركي جسّدت، بشكل فاقع، نموذج المرأة السلبية. وكأنها من نوع النساء اللواتي يقلن للرجل: أقبل الإهانة ولكن ليس أمام الناس.

الأربعاء، 31 ديسمبر 2014

أشار إلى مفارقات في أحداث تاريخ الإسلام الأول واتهم بالردة. فماذا قال؟

في 24 من كانون الأول، حكمت المحكمة الجنائية في نواديبو، التي تبعد نحو 480 كيلومتراً عن نواكشوط، عاصمة موريتانيا، على الشاب محمد شيخ ولد محمد (29 عاماً) بالإعدام بتهمة الردة.
السبب هو كتابته مقالاً قصد منه الدفاع عن مصالح الطبقات الاجتماعية المظلومة في موريتانيا. اعتبرت المحكمة مقاله مسيئاً للرسول واتهمته بـ"التحدث باستخفاف عن النبي محمد".
(المقال يتضمن بعض الإشارات إلى الصراعات الاجتماعية في موريتانيا، لن يفهمها القارئ غير المتابع للشؤون الموريتانية. ولكن يبقى مهماً الإطلاع على ما كتبه ولد محمد، بغض النظر عن تقييمنا لما قاله، بخصوص تمييز الإسلام في عهد النبي بين الناس على أساس الانتماءات الاجتماعية).

فماذا كتب ولد محمد؟

الدين والتدين و"لمعلمين"



لا علاقة للدين بقضيتكم أيها لمعلمين الكرام فلا أنساب في الدين ولا طبقية ولا "أمعلمين" ولا "بيظان" وهم يحزنون.
مشكلتكم إن صح ما تقولون يمكن إدراجها فيما يعرف بـ"التدين".
تلكم أطروحة جديدة وقد وجدت من بين لمعلمين أنفسهم من يدافع عنها.
حسناً.
دعونا الآن نعود للدين والتدين حتى نتبين موقع الأنساب والطبقية من الدين.
ما هو الفرق بين الدين والتدين؟
يقول الدكتور عبد المجيد النجار "إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما" (كتاب الأمة).
إذن: الدين هو وضع إلهي والتدين كسب بشري.
متى كان الدين ومتى كان التدين؟
مما لا شك فيه أننا إذا قسمنا الفترة الزمنية للإسلام إلى قسمين سنجد:
ـ فترة حياة محمد وهي فترة دين
ـ ما بعد محمد وهي فترة تدين

تعالوا بنا لنأخذ بعض المشاهد من عصر الدين:

الزمان: بعيد معركة بدر 624 ميلادية
المكان: يثرب
ماذا حدث؟
الأسرى من قريش في قبضة المسلمين، والحكم قد صدر بما يلي:
قال المستشار الأول لرسول الله أبو بكر الصديق: "يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً".
ملاحظة: من هم الكفار إذا هنا في رأي أبي بكر؟
ثم كان بعد ذلك قرار أبي بكر هو القرار النهائي مع إضافة عملية التعليم لمن لا يملك المال.
لكن مهلاً. لقد كانت هنالك حالة استثنائية فقد أرادت زينب بنت رسول الله افتداء زوجها أبي العاص بقلادة لها كانت عند خديجة، فلما رآها رسول الله رقّ لها رقّةً شديدة، وقال لأصحابه: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فوافقوا على ذلك"، رواه أبو داود .
برأيكم ما هذا الاستثناء؟

الزمان: 625 ميلادية
المكان: أحد
الحدث: قتال بين المسلمين وقريش
قريش في مواجهة المسلمين انتقاما لبدر ورغبة في القضاء على محمد وأتباعه.
هند بنت عتبة تستأجر وحشي لقتل حمزة مقابل حريته ومكافأة مالية تتمثل في حليها.
هند تصل للهدف وتمثل في جثة حمزة.
وبعد سنوات عدة وأيام ما يعرف بفتح مكة دخلت هند في الإسلام لتنال اللقب الشهير "عزيزة في الكفر، عزيزة في الإسلام".
أما وحشي فأمره النبي أن يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام.
هند قرشية ووحشي حبشي وإلا فما هو سبب التمييز بينهما وهم في الجرم على الأقل سواء أو إن شئتم الدقة فهند هي المذنب الحقيقي وما ذنب عبد مأجور.
دائماً وفي نفس المعركة، أحد، ولنقارن ما حدث لـ"وحشي" مع دور شخص آخر هو خالد بن الوليد حيث أن هذا الرجل كان السبب الرئيسي في هزيمة المسلمين في أحد، وقتل عدد من المسلمين. ولكن عند دخوله الإسلام أخذ اللقب الشهير "سيف الله المسلول"، فلماذا لا يتم استقبال وحشي ويأخذ مثلاً لقب "حربة الله التي لا تخطئ الهدف"؟.

المكان: مكة
الزمان: 630 ميلادية
الحدث: فتح مكة
ما هي النتيحة؟
نال أهلُ مكة عفواً عاماً رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم. وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعين قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول محمد فيهم، فقال: "ما تظنون أني فاعل بكم؟"، فقالوا: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ"، فقال: "لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ"، وذكر عبارة "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى.

المكان: حصون بني قريظة
الزمان: 627 ميلادية
الحدث: إبادة بني قريظة
السبب:
1ـ تآمر رجالات من بني قريظة ضد المسلمين في حصار الخندق، هم القادة فقط إن عممنا مع العلم أن هنالك آية تقول: " ولا تزر وازرة وزر أخرى".
2ـ وقد ثبت أن النبي قال لليهود وهو مشرف على حصون بني قريظة وقد حاصرهم: "يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتمونني؟ قال فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى: ما فعلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولاً ثم قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرماة من أصحابه".
وقد ناداهم بذلك لشتمهم إيَّاه. (الطبري، 2/252، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، وذكره ابن كثير، 1/207، تحقيق الوادعي).
أريد هنا قبل أن أواصل أن أشير إلى أننا في سياق الحديث عن النبي فنحن نتحدث عن ما يمكن تسميته "العقل الشامل" بدليل أنه لا ينطق عن الهوى.
ونعود للمقارنة بين الحالتين، مكة وبني قريظة:
بنو قريظة هموا بالتمالؤ، والأمر لم يحدث مع قريش من أجل القضاء على محمد ودعوته. فتم العفو العام عن قريش ونفذ الإعدام في بني قريظة سيان من هم بنقض العهد أو من لم يهم بذلك فقد تم الحكم على بني قريظة، فقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين فمن أنبت منهم قتل، ومن لم ينبت جعل في الذراري (الراوي: المحدث ابن الملقن، المصدر: البدر المنير، 6/670، خلاصة حكم المحدث: صحيح مشهور).
وهذا غلام ويُدعى عطية القرظي، لم يُقتل لأن المسلمين كشفوا عن عورته ولم يجدوا شعراً (دليل البلوغ) فنجا من السيف المحمدي.
عن عطية القرظي، قال: "كنت من سبي قريظة، عرضنا على النبي، صلى الله عليه وسلم،فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكشفوا عانتي، فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في السبي" (عطية القرظي، المحدث: الألباني، المصدر: تخريج مشكاة المصابيح، 3901، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح.
قريش واجهت المسلمين في أكثر من معركة وحاصرتهم حصاراً شديداً في الخندق وفي بدايات الدعوة انتدبت أربعين شاباً لقتل محمد ليلة الهجرة وقبل الهجرة وفي مكة قتلوا وعذبوا المسلمين أشد تعذيب وفي فتح مكة وجدوا أمامهم أخاً كريما وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
بني قريظة فقط هموا بالتحالف مع المشركين فكان جزاءهم القتل الجماعي.
أين راحت الرحمة؟
أم أن للأخوة و"أَتْبَنْعِيمَه" دورها في "العقل الشامل/ المطلق".

وكخلاصة:
إذا كان مفهوم "بنو العم والعشيرة والإخوان" يجعل أبا بكر يحجم عن قتل المشركين؛
وعلاقة الأبوة بين زينب والرسول تمنحها إطلاق سراح زوجها مجاناً؛
والانتماء القرشي يعطي ألقاب البطولات للقرشيين ويمنعها عن الحبشيين؛
والأخوة وعلاقة الدم والقربى تمنح حق الرحمة لقريش في الفتح وتحرم بني قريظة من ذلك الحق؛
وكل هذه الأمور تتم في عصر الدين فما بالك بعصر التدين؛

إخوتي
أريد فقط أن أصل معكم، وأخاطب لمعلمين أساساً، أن محاولة التفريق بين روح الدين وواقع التدين هي محاولات "طيبة لكنها لا تنافس" فالحقائق لا يمكن طمسها، وهذا الشبل/ البيظاني من ذاك الأسد.
وأن الذي يعاني يجب أن يكون صريحاً مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دوراً فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين ورجال الدين وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين ولمعلمين وإيكاون الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام ومشربهم حرام وعملهم حرام.

الجمعة، 11 أبريل 2014

ملامح نوستالجية من تراث بيروت

بين استعراض تراث بيروت من خلال دراسة عائلة بيروتية نموذجية وبين التعرّف على معالم "البيت البيروتي التقليدي" وبين استذكار وقائع تستعيد نتفاً من ماضي العيش المشترك بين مسلمي بيروت ومسيحييها دارت أعمال الندوة التي نظمها "مركز التراث اللبناني" في الجامعة اللبنانية الأميركية وذلك مساء الإثنين الماضي في كلية الإدارة والأعمال في الجامعة.

أول ما يلفت النظر في القاعة هو عمر الحضور. أكثرية المهتمين بموضوع الندوة المعقودة تحت عنوان "بيروت... بيروت... وتلك الذكريات/ وجوه ومرويات من تاريخ بيروت أعلاماً وعلامات" هم ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين سنة أما توزيعهم الجندري فهو متوازن. طبيعة الحضور تعكس تأسّي الأجيال القديمة على مدينة ضاع كثير من معالمها وملامحها فيما يبدو أن الأجيال الجديدة تعيش سرعة المتغيّرات دون أن تتمسّك بأي مقياس نوستالجي، إن جاز التعبير، في نظرتها إلى المدينة.

ملامح نوستالجية
"ملامح نوستالجية من تراث بيروت أيّام زمان" هو عنوان مداخلة المتحدث الثاني في الندوة، المحامي عبد اللطيف فاخوري. صاحب كتابي "البيارتة" و"منزول بيروت" بدأ من مكان لا يمكن لأحد توقعه. بدأ باستذكار موت أفراد الجيش المصري عندما قدموا إلى الشام في منتصف القرن التاسع عشر بمرض سُمّي "النوستالجي". كان همّ فاخوري، في عرضه، أن يسترجع ملامح العيش المشترك بين أبناء بيروت المسلمين والمسيحيين وكأن ماضي هذا العيش هو أكثر ما يفتقده في بيروت الآن.

"لم يُعرف عن أهل بيروت أنهم اختلفوا حول هوية طائفية أو مذهبية أو مناطقية. تراثهم يميل إلى التحلّي بمكارم الأخلاق التي كرّستها الأديان". هذه هي فرضيته وكل ما سيأتي لاحقاً ليس سوى استعراض وقائع ينبشها فاخوري ليؤكد عليها.

استذكر فاخوري كيف كان البيارتة يستعيرون دار أبو عسكر الفسيحة ليقيموا فيها بعض مناسباتهم كحفلات الزواج أو إحياء المولد النبوي الشريف. أبو عسكر هذا هو يونس نقولا الجبيلي. استعاد انعكاسات الفتنة الطائفية بين الدروز والمسيحيين، عام 1860، على بيروت. عرض لموقف الشيخ محمد الحوت حين حذّر بعض البيارتة المتحمّسين من أن امتداد الفتنة إلى بيروت سيمنح الأجانب ذريعة للتدخل. تحدّث عن لجوء مسيحيي الجبل إلى بيروت وعن ردّ المسيحيين للجميل باستقبال نواحيهم القائمة على أطراف المدينة البيارتة حين قصف الأسطول الإيطالي بيروت، عام 1912، وعن موقف مطران بيروت الذي حثّ المسيحيين على الترحيب بالمسلمين النازحين.

فاخوري تطرّق إلى الجانب الإيجابي من الحروب الصليبية أي إلى احتكاك الثقافة المحلية بثقافة الغرب وما كان له من انعكاسات إجتماعية ولّدت تلاقحاً بين ثقافتين: "نشأت منطقة وسطى ضمّت مزيجاً من التراثين الإسلامي والمسيحي". تعرّف المسيحيون على إحياء المسيحيين لعيد الميلاد فصاروا يحيون المولد النبوي الشريف. عادة "الأبولة" البيروتية، وهي عادة إشعال حزمات من الحطب في المولد النبوي، وُلدت من مشاهدة المسلمين المسيحيين وهم يرفعون المشاعل في عيد الغطاس. أسماء البيارتة المركّبة التي تحتوي على إسم النبي هي نتيجة تبرّك المسيحيين باسم أحد القديسين مع اسم أولادهم. يختم العلامة إبن حجر الهيثمي كتابه "قصة المولد النبوي"، الذي كان يدرّس في القرن التاسع عشر، بعبارة "أبد الآبدين ودهر الداهرين" وهي العبارة المستخدمة في الصلوات في الكنائس...

من العام انتقل فاخوري إلى الخاص. روى وقائع مولد أبيه في حيّ داود عمّون وتقاطر الجارات المسيحيات إلى دارة أهله لتهنئة والدته. صادف وقوع ذلك عيد الميلاد فكان أن سُمّي والده مصطفى ميلاد. في ختام مداخلته، عاد فاخوري إلى النوستالجيا مستعيراً من الشيخ ناصيف اليازجي قوله "تُرى ليالينا تعود/ مثل الزمان الأول؟".

 بيروت "أفندي الغَلْغُول"
بعد تقديم مدير "مركز التراث اللبناني" الشاعر هنري زغيب للمشاركيْن، كانت البداية مع الدكتور نادر سراج ومشاركته بعنوان "أهمية المصادر غير التقليدية في عملية جمع التراث/ "أفندي الغلغول" وتراث بيروت القديم نموذجاً". سراج قام بفتح "نافذة انثروبولوجية" على تاريخ المدينة من خلال تتبع سيرة "أفندي الغلغول".

في مداخلته القيّمة، سار سراج على خطين متوازيين. أوضح منهجية بحثه وفي الوقت نفسه خلص إلى استنتاجات تستعيد بعض جوانب تراث المدينة. من خلال سيرة عائلة نموذجية (آل الجمّال) يقوم الباحث بدراسة بيروت. "أفندي الغلغول" هو هاشم علي حسين الجمّال الذي شيّد منزلاً بيروتياً تقليدياً في منطقة الغلغول (المنطقة الممتدة بين مبنيي الإسكوا واللعازارية) في منتصف القرن التاسع عشر. يلاحق سراج التبدلات التي طرأت على عائلة الأفندي والتي تنضوي ضمن إطار التغيّرات التي عرفتها المدينة.

"أفندي الغلغول"، الموظف في دوائر الدولة العثمانية، كان إحدى الشخصيات الـ25 التي أسست "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية". بعد تعيينه رئيساً لبلدية صيدا، راح يتنقّل بين مدينتي بيروت وصيدا حيث شيّد منزله الثاني بعد منزله الأول القائم في "زاروب الجمّال".

في كتابه عن "أفندي الغلغول"، اعتمد سراج كثيراً على الروايات الشفهية لأن ما كُتب عن هذه الشخصية قليل. استند إلى مرويات سمعها من والدته (حفيدة الأفندي) وسجلها في ذاكرته، وإلى مقابلات أجراها مع آخر أحفاده. إلى هذه المرويات، استخلص معلومات مكمّلة من مصادر أخرى كوثائق ومراسلات بين الأفندي وأولاده، بطاقات بريدية، كتب عثمانية توثق بعض أحوال نواحي السلطنة وقاطنيها...

من الصور الفوتوغرافية التي تُظهر الأفندي وأفراد عائلته استخلص بعضاً من التحوّلات التي طرأت على العائلة وعلى المجتمع البيروتي. في صورة تعود إلى العام 1863، يظهر الأفندي شاباً يافعاً يرتدي لباساً عثمانياً خالصاً. في صورة أحدث يظهر معتمراً "الشاشية" (نوع من الطربوش) وفي آخر أيامه يظهر مرتدياً بذلة وربطة عنق. أما زوجته التركية الأصل فهي تظهر في صورة تعود إلى العام 1880 لا تخفي فيها كامل شعرها مع أنها جالسة أمام مصوّر أجنبي.

أولاد الأفندي يظهرون متحلّقين حول والدهم الذي يتوسطهم في وضعية شبه عسكرية ثم يظهرون لوحدهم، في صورة التقطوها لأنفسهم في الآستانة حيث ذهبوا لاستكمال تحصيلهم العلمي بعد فترة قضوها في المدرسة الرشدية في البسطا. هكذا كان حال البيارتة الذين يريدون الاستمرار في التحصيل العلمي. بعد الصور الجامعة، عرض سراج صور الأولاد فرادى ليظهر تشتتهم في أرجاء السلطنة بين القدس وليبيا وبيروت.

سراج تطرق إلى ميول البعض الاجتماعية كانتماء إبن الأفندي المعمّم وابن أخيه الصيدلي إلى الحركة الماسونية التي كانت، في وعي أبناء المدينة، تعني الانفتاح. أما في زمن لبنان الكبير فقد أورد ملاحظة وحيدة ولكنها قيّمة: كان البيارتة يقصّون من تذاكر هويتم القسم الأعلى الذي يشير إلى دولة لبنان الكبير وذلك اعتراضاً على فصلهم عن السلطنة.

المشاركتين كانتا قيّمتين وأعادتا الحضور إلى زمن بيروت القديمة. الحضور كان سعيداً باستعادة الذكريات حتى أن بعضه كان يصفّق حين ترد فكرة تؤكد على ماضي العيش المشترك بين أبناء المدينة المتنوّعين. كل ما في القاعة كان نوستالجياً.

(نشر في now.mmedia.me في 10 نيسان 2014)

الخميس، 1 أغسطس 2013

الشعب يريد الجيش!


"الشعب يريد الجيش". هكذا قرّر القيّمون على الحملة "الشعبية" الهادفة إلى دعم الجيش اللبناني بمناسبة اقتراب موعد عيد الجيش في الأول من آب. تعددت الإعلانات والجوهر واحد: إنفصام عن الواقع!

مديرية التوجيه في الجيش قررت التوجه إلى اللبنانيين في هذه المناسبة بشعار يتيم هو "وعدي إلك وحدك". لم يختر الجيش مخاطبة اللبنانيين بعبارة تعكس إرادته الصلبة في تطبيق القوانين وردع المخالفين لإشعارهم بأمانٍ يفتقدونه. اكتفى بشعار بسيط وعام أراد من خلاله التأكيد على دوره الوطني وعلى حصرية ارتباطه بالوطن لا بأي كيان آخر.

ولكن إلى جانب شعار الجيش انتشرت إعلانات حملة "الشعب يريد الجيش". تبنّت الحملة شعاراً يتنافى مع واقع الحال الذي يعيشه اللبنانيون خاصةً في الشهرين الأخيرين. من عرسال والحدود اللبنانية ـ السورية إلى صيدا مروراً بطرابلس وأماكن أخرى وجّهت قوى سياسية عدّة انتقادات لعمل الجيش. وعلى الرغم من هذا الواقع الإنقسامي، قرر أحدهم أن "الشعب يريد الجيش"! لعلّه يختصر الشعب بنفسه!

قراءة بسيطة للواقع اللبناني تثبت أنه لا يمكن لمؤسسة الجيش أن تقوم بدورها بشكل يرضي جميع القوى السياسية واستطراداً جميع فئات الشعب اللبناني. كل طرف من طرفي الصراع اللبناني يريد من الجيش ضرب خصومه ويدعوه ضمنياً إلى بناء تحالف معه في مواجهة الآخرين. وهكذا، فإن الإنتظارات الشعبية من الجيش تتناقض إلى حدّ أن أيّة عملية ينفذها الجيش لن تستطيع أن تثير قراءة لها من خارج الإنقسام اللبناني. يشهد على هذا الأمر التوزيع السياسي ـ الطائفي للمتضامنين مع الجيش حين كل عملية ينفذها. اللبناني ما عاد يطيق الاستماع إلى أي لحن لا ينسجم مع سيمفونية طائفتة. هذا هو الواقع.


"أنا نازلي قلبي أعطيهن"، "أنا نازل أوقف حدّن"، "أنا نازلي لربّي صلّيلن" (جملة لا تصلح حتى لغوياً)، "أنا نازل إكبر فيهن"... تأتي إجابات مواطنين يرتدون بذلة الجيش على سؤال "إنت شو نازل تعمل؟". يتم تصوير الجيش في حملة التضامن معه ككيان يحتاج إلى رعاية شعبية ليشتّد بها عوده. ولهذا الغرض يتم تنظيم احتفال شعبي بعيده الذي، في العادة، لا يشهد احتفالات شعبية!

يعطي القيّمون على الحملة الجيش تفويضاً شعبياً من المواطنين بمعزل عن مؤسسات الدولة السياسية. الخطير في هذا الأمر أن قراءة رسائل الإعلانات لا يمكن إلا أن تكون إنقسامية بسبب إنقسام اللبنانيين. فإعلانات "الشعب يريد الجيش" تنتشر بكثافة على الأوتوستراد الذي يصل الدورة بجبيل وتظهر بخجل في المناطق الأخرى. وهكذا تتنافس مع إعلانات للتيار الوطني الحر وللقوات اللبنانية موضوعها استرجاع حقوق المسيحيين! غياب العدالة في التوزيع يُحفّز على قراءة غير وطنية للرسالة. هل انتبه المُعلن إلى هذه المسألة؟


لا تنطلق الإعلانات من الواقع الدستوري اللبناني الذي يفوّض مجلس الوزراء صلاحية اتخاذ القرارات السياسية ولا يترك للجيش سوى دور تنفيذي. يعود ذلك إلى خطأ في فهم دور الجيش في الأنظمة الديمقراطية، خطأ يعود إلى فترة الإنتداب السوري حين كان يتم الإحتفال في الأول من آب بعيد الجيشين اللبناني والسوري. تسربت الثقافة البعثية إلى لغة القوى السياسية اللبنانية ووصلت حتى إلى مؤسسة الجيش اللبناني. ظهر مصطلح راح يتردد في ما بعد بصورة آلية دون الانتباه إلى مضامينه. إنه مصطلح "عقيدة الجيش".

يعود هذا المصطلح الخطير على الحياة الديمقراطية الطبيعية إلى يسار حزب البعث وبالتحديد إلى أكرم الحوراني الذي كان يعوّل على إدخال عناصر حزبية مؤدلجة إلى الجيش السوري. في الأنظمة الديمقراطية يلعب الجيش دور أداة تنفيذية تتبنّى السياسة التي تحددها المؤسسات الدستورية. لا يحق للجيش تبنّي عقيدة بمعزل عن السلطة السياسية فهو يجب أن يكون مؤسسة غير عقائدية ومرتبطة بهذه السلطة.

الحملة الإعلانية "الشعبية" تصل إلى حدّ التوجه للجيش، بلسان اللبنانيين، بالقول: "إنت فصّل كلنا منلبس". هو الإنقسام السياسي في لبنان يدفع بالبعض إلى انتظار مخلّص ما. ولكن عفواً. هذا شعار مرفوض جملة وتفصيلاً في نظام ديمقراطي وفي دولة لا تزال تعاني من آثار كتاب فؤاد عون المعنون "الجيش هو الحل" وفي واقع إقليمي شهد مؤخراً ظاهرة عبد الفتاح السيسي.

ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة

آخر نشاطات الديبلوماسية اللبنانية كان حركة وزير الخارجية عدنان منصور للحؤول دون إدراج حزب الله على لائحة الإتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية. فشل التحرك. ولكن بغض النظر عن نتيجته فإن طبيعته وموضوعه يدلان على أمر خطير: لقد حُدّت الديبلوماسية اللبنانية، في سنواتها الأخيرة، بنشاط جلّ هدفه "ترقيع" الصيغة اللبنانية.

بغض النظر عن شخصية الوزير منصور والتي لا توحي بأنه صاحب حنكة، فإن عقم سياسة لبنان الخارجية ناتج عن أسباب أعمق بكثير من مؤهلات الوزير. جوهر الموضوع أنه من المحال على الدولة اللبنانية، بشكلها الراهن، أن تنتج ديبلوماسية فعالة. المقاربة نفسها يمكن تعميمها لتطال آخر تجارب شهدتها وزارة الخارجية اللبنانية.

الهدف من نشاط وزارة الخارجية الأخير كان دفع دول الإتحاد الأوروبي إلى غضّ النظر عن مشكلة كبيرة تتمثل في نشاط حزب الله الذي لم يكتف بتعقيد الوضع اللبناني الداخلي بل فاض عن حدود لبنان وبلغ مبالغ يصعب تحديدها بدقة. كل الحجج التي من الممكن أن تطرحها المنظومة الديبلوماسية اللبنانية ترتكز على واقعة وحيدة: لبنان دولة متعددة يجب أن يتمثل في مؤسساتها الدستورية كلّ القوى السياسية التي تمثل الطوائف اللبنانية! أو بمعنى آخر: ساعدونا على "ترقيع" صيغتنا نحن من لا نأبه بانعكاسات تناقضاتنا على الآخرين. مستحيل "تسويق" هكذا سياسة!

لسنوات خلت لم تستطع سياسة لبنان الخارجية، على مستوى المطالب الوطنية، سوى انتاج ديبلوماسية سلبية عقيمة حتى في سلبيّتها! غابت قضية استعادة مزارع شبعا ولم يتم إيقاظ مطلب ترسيم الحدود اللبنانية السورية على الرغم من الضحايا المدنيين الذين سقطوا بسبب عجز الدولة عن تحديد حدودها وحمايتها.

حتى في مسألة النازحين السوريين إلى لبنان، أغمضت ديبلوماسيتنا عينيها عن واقع أن المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان على أساس أنه أرض بلا سلطة سياسية. تدفق النازحون في ظل غياب أيّة خطة وطنية للتعاطي مع الأزمة. كل ما قامت به الديبلوماسية اللبنانية هو طلب بعض المساعدات لكي لا يمزّق ثقل النزوح الصيغة اللبنانية! وكانت النتيجة أن بدأت المساعدات الدولية بالتدفق، على الرغم من خجلها، من دون المرور بمؤسسات الدولة.

منذ فترة طويلة لم يعد المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان كدولة. حتى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أتى فرضاً، لكن مجلس الأمن أخرجه بطريقة تحفظ لنا بعض المتبقي من كرامة وطنية. وحين أرسلت مساهمة لبنان الأخيرة في تكلفة إدارة هذه المحكمة، أرسلت بطريقة غير مؤسساتية وبهدف "ترقيع" الصيغة وعدم مواجهة سنّة لبنان المصرّين على استمرار عملها.

صار نشاط الديبلوماسية اللبنانية يقتصر على أداء وظيفة "رسول الطوائف". تحلل الدولة اللبنانية أحدث فصلاً مخيفاً بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. لا يمكن للخارجية، إن فاوضت، وبغض النظر عن الموضوع أن تستجيب لأي مطلب يتعلق بالداخل اللبناني إلا بشرط موافقة السلطة الطائفية التي يعنيها هذا المطلب. أين هم المطلوبون من المحكمة الدولية على سبيل المثال؟ يظن ممثلو لبنان أنهم أذكياء وأن المجتمع الدولي اقتنع برسائل لبنان التي تدّعي أن الدولة تقوم بجهد للتحري عن المطلوبين. لا يعلمون أن "لطف" المجتمع الدولي مردّه إلى تأجيل إعلان لبنان دولة فاشلة لأن هكذا إعلان سيرتب عليهم مسؤوليات هم بغنى عن تحمّلها في المرحلة الراهنة.

المجتمع الدولي ادرك هذه الحقيقة منذ وقت طويل. فصار يفاوض صاحب الشأن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وتجاوز العلاقات المؤسساتية مع الدولة اللبنانية. صارت المفاوضات على "تحركات الأهالي" الموجهة ضد قوات اليونيفيل أجدى من خطابات الديبلوماسيين اللبنانيين في الأمم المتحدة.

لنختصر المشهد برمته. لبنان مجتمع مفكك تتناقض سياسات طوائفه الخارجية إلى حدّ خطر إندلاع حرب أهلية. لا يمكن بناء سياسة خارجية على هذا الكم من التناقضات. كل سياسة خارجية هي "تسويق" لتفاهمات داخلية. يمكن أن تنجح وزارة الخارجية في مهمة "التسويق" ويمكن أن تفشل. هذا يعود إلى الواقعية السياسية السائدة في العلاقات الدولية. ولكن لا يمكن لدولة أن تبني سياسة خارجية على مسائل تثير الخلاف في مجتمعها.

كل فشل في السياسة الخارجية سببه ليس تواطؤ المجتمع الدولي ولا أيّة مؤامرات متخيّلة، بل هو ناتج، بشكل أساسي، عن فشل اللبنانيين في بناء دولتهم وعجزهم عن الاتفاق على تصوّر مشترك لمستقبل لبنان واللبنانيين. ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة لم تعد مجدية فالصيغة اهترأت وما عاد من الممكن ترميمها إلا بميثاق وطني جديد.

منشور في www.almodon.com في 22/7/2013

البتر المستدام

أقل ما يُقال عن التعدّي على الشاب ربيع الأحمد، إبن بلدة حرار العكارية، إنه مرعب. مرعب ما يختزنه قطع عضوه التناسلي من عنف وثقافة إلغائية وصلت إلى حد الاستئصال. ولكن أرعب ما فيه هو أنه فعل غير منعزل عن مسار إلغائي بات يحدّد حركة الإجتماع اللبناني.

رمزياً، يحيل العنف المختزن في ما فعلته العائلة البيصورية إلى إرادة استئصال أيّة علاقة قائمة مع "الآخر". ليس العضو التناسلي كعضو، هو المستهدف في هذه الجريمة بل هي العلاقة التي يرمز إليها العضو. على المستوى المادي هي جريمة استثنائية ببشاعتها، ولكن على المستوى الرمزي تتقاطع مع جرائم كثيرة يرتكبها اللبنانيون بحق بعضهم البعض وإن كانوا يغلفونها بكلام مزخرف أو يمررونها بطريقة شبه مخفيّة.

اقتصار الحديث عن جريمة بيصور يبعد أنظارنا عن السياق الكبير الذي تندرج فيه. هو زمن البتر الذي وصلنا إليه كلبنانيين متنوّعين. كل صلة عابرة لحدود مجتمعات التنوّع اللبناني شبه المنعزلة باتت مهددة بالبتر. الأمثلة أكثر من أن تحصى، والمشتركون فيها يتوزّعون على كافة الطوائف اللبنانية. لا فضل لطائفة على أخرى إلا بطريقة البتر.

تتعدد الأشكال وبتر الصلات بين اللبنانيين المختلفين واحد. عندما وقع الاعتداء على الشيخين في منطقة الخندق الغميق كانت الحادثة مؤشراً على الدرك الذي وصلت إليه الصلات بين السنّة والشيعة والتي ما عادت تتحمل مروراً آمناً للسنّة (أقلّه للكثافة السنّية معبراً عنها بمظهر اللحية والشاربين المحفوفين) في الأحياء الشعبية الشيعية. وفي المقابل كان هجر بعض أصحاب المصالح والسكان الشيعة لمنطقة الطريق الجديدة بسبب تعديات تعرّضوا لها مؤشراً على المأساة نفسها في المقلب الآخر.

كلّما دارت اشتباكات في طرابلس يستغل بعض الغلاة المناسبة ويقومون بحرق محلات العلويين في قلب المدينة. ليس هذا سوى بتر للعلاقة التي تقوم بين أبناء الطائفتين السنّية والعلوية في عاصمة الشمال.

البتّارون يطوفون بحرية في كلّ البيئات الطائفية اللبنانية. أحد الكتاب اعتبر أن قرية علما الشعب الجنوبية الحدودية انضمت إلى "لائحة الشرف" حين رفض مخاتيرها توقيع علم وخبر لنقل ملكية قطعة صغيرة من الأرض لا تتعدى مساحتها ثلاثة دونمات من أحد أبنائها إلى "غريب". ولخصت صحافية واقع "أراضي المسيحيين" بالتالي: "مثلما باع يهوذا السيد المسيح بقبلة وحفنة من الدراهم، هكذا يفعل المسيحيون اليوم بأراضيهم... بقبلة الإستغناء ورزمة من العملة الخضراء".

إنه مديح البتر في ثقافتنا المأزومة. وهو ليس ثقافة شعبية فقط بل يجد تعبيرات عنه في كلام السياسيين. فالنائب بطرس حرب اقترح قانوناً يمنع بيع الأراضي بين أبناء الطوائف اللبنانية المختلفة. وزميله سامي الجميّل قال مرّة إن بيع المسيحيين لأراض واقعة في منطقة الشوف وعاليه للبنانيين شيعة يعتبر تعدّياً على "مناطقنا وتاريخنا وهويتنا وأرضنا وشهدائنا ونضالنا، ويجب أن نواجههم". ومن جانبه أيضاً، دعا إلى إقرار قانون "يهدف إلى الحد من عملية بيع الأراضي التي تحصل بشكل همجي". الجميّل غلّف مقاصده بخدعة من خلال استبداله كلمة الشيعة بحزب الله. أراد تلطيف مديحه للبتر بغلاف سياسي ـ استراتيجي.

ولكن بلديات الحدث وكفرشيما، حين ترفض تسجيل شقة سكنية يشتريها لبناني شيعي أصدق في ممارستها من النائب الشاب. كذلك الأمر بالنسبة لـ"لجنة المتابعة في القبيات" التي تضم ممثلين عن القوى السياسية في البلدة حين ندّدت "بالعمل المشين" الذي أقدم عليه أحد أبناء البلدة ببيعه أرضه "بطريقة مخادعة و سرّية"، واعتبرت أنّ كل محاولة لشراء أرض من القبيات هو "تعدّ على القبيات وأهلها".

صار كل اختلاط بين اللبنانيين يقع في دائرة المهدد بالبتر.  أمام هذا الواقع، هل نقتنع بكلام رئيس بلدية بيصور حين قال "إن الجريمة فردية" وليس لها أيّة تداعيات طائفية؟ وهل نأمن لاعتبار الحزب التقدمي الإشتراكي أن ما وقع في بيصور هو "مسألة شخصيّة"؟


أصبح ملحاً فتح ملف العلاقات بين اللبنانيين بشكل صريح، وإيقاف المهزلة التي تطلّ علينا بجرائم وبشاعات مختلفة. ما يحصل في لبنان "بالمفرّق" يقضي "بالجملة" على الصلات القليلة الباقية بين اللبنانيين.

منشور في www.almodon.com في 19/7/2013

الاثنين، 3 يونيو 2013

تنافس على إرث الحرب

فجأة، تذكرت القوى السياسية المسيحية وجود مقاتلين قدامى وراحت تسعى إلى كسب ودّهم. قبلها وبعدها كانت تسابق بعضها بعضاً على نسب بطولات الحرب إليها، من خلال إعلائها صور "الشهداء" الذين قضوا أثناءها. هو التنافس المسيحي على قسمة إرث الحرب.

استقطاب مقاتل سابق يختلف عن استقطاب مواطن عادي. هو استقطاب للتاريخ، وبالتحديد لتاريخ المشاركة المسيحية في الحرب. وهو محاولة لمدّ غطاء شرعية الماضي "البطولي" على الحاضر "المحبط". أما الحديث عن بطولات "الشهداء" وتاريخ معاركهم الناصع، فالهدف منه الإيحاء بأن سياسيي اليوم هم استمرار لمقاتلي الأمس. وإذا ما افترضنا أن السياسيين يعرضون ما يطلبه الجمهور فإن كل شيء يشهد على أن بعض المسيحيين يتوقون إلى الزمن القديم.


"مَن واجه حرباً بحجم حرب زحلة والأشرفية وكلّ ما حصل خلال الحرب في لبنان، ومن اجتاز الجرد من جهة الى جهة... لن تُثنيه بعض الرصاصات"، قال رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية سمير جعجع مصوّراً نفسه كبطل لا يُقهر. هذا البطل هو حفيد أبطال يطلّون بذكراهم من الأزمنة الغابرة. "انطلاقة القوات لم تبدأ اليوم، ولا حتى في العام 1975، بل بدأت مع أجدادنا الذين اكتشفوا باكراً، أن الخنوع والانبطاح أمام الظالم، لا يزيده إلا ظلماً وتجبراً وتعجرفاً"، روى في احتفال الحزب بتنسيب دفعة من الأعضاء. إنها القوات اللبنانية التي تجسّد بطولات الشهداء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. "القوات لا يمكن أن تكون إلا على صورة بشير الجميل وآلاف آلاف الشهداء، مثل حد السيف ثابتة"، يؤكد جعجع. 

انتبه حزب الكتائب إلى مردودية خطاب الدفاع عن الماضي. قام بدايةً بتكريم قادة وعناصر "وحدات مغاوير المقاومة اللبنانية"، في حضور أحد قادتها إبراهيم حداد (بوب حداد) وعدد كبير من قادة وعناصر وحدة المغاوير. "إن مقاومة حزب الكتائب ومقاومة المغاوير، كانت دوماً معركة دفاع عن وجودنا ولن نسمح لأحد بأن يشوهها بأيّ شكل من الأشكال"، قال النائب سامي الجميّل في المناسبة، مضيفاً أن "أي مساس بذكرى المقاومة وبتضحياتها ونضالها، هو إفشال لأي محاولة عيش مشترك بين اللبنانيين".

بعدها بفترة وجيزة، استقبل مقر القيادة في بكفيا مسعود الأشقر (بوسي) لإلقاء محاضرة عن "المقاومة المسيحية". ثم ما كان من الحزب إلا أن أقام احتفالاً تكريمياً لـ150 عنصراً من قادة وأفراد فرقة الكومندوس والـ"ب.ج". كان من ضمن المكرمين: فؤاد ابو ناضر، سامي خويري، جورج قزي، جوسلين خويري، فادي خويري، مارون مشعلاني، جورج رشدان، مسعود مراد، جورج روحانا، جورج فوريدوس. في كلمته، أكد القائد السابق للقوات اللبنانية فؤاد أبو ناضر "أن الأهم في ما يحصل اليوم هو المحافظة على الذاكرة والتاريخ الذي نفخر به ". ما هو هذا التاريخ؟ "حزب الكتائب لم يخض إلا المعارك الصحيحة".

قرر الكتائبيون العودة إلى الماضي والإنطلاق منه. مؤخراً اختير للقاعة التي أسست في مقرّ النائب سامي الجميّل في بكفيا، بهدف استقبال الوفود الشعبية، إسم الشهيد أمين أسود. أسود هو شهيد من فرقة الـ"ب.ج" وتوفي عن عمر 18 سنة في إحدى معارك الأسواق التجارية.

وقبل حوالى سنة من هذه التكريمات، مشى النائب نديم الجميّل مع عدد من الرفاق من منطقة الزعرور إلى زحلة وهم يرتدون اللباس العسكري. أتى ذلك في مناسبة ذكرى شهداء حصار زحلة في نيسان 1981.

التيار الوطني الحرّ لا يستطيع ممارسة هذه اللعبة كما منافسيه المسيحيين. فبطولات الجنرال سطرها باسم الجيش اللبناني ولا يمكن ردّها إلى المجتمع المسيحي حصراً. ولكن ميشال عون  يصرّ على "أن نراجع معاً أهم المحطات، كي تبقى في ذاكرتنا الجماعية". يعدد "الأهداف التي من أجلها قاتلنا وحمل كل منا صليبه، مدة أربعة وعشرين عاماً" ومن ضمنها أعمال "زعران" ميليشيا القوات.

النجم المسيحي المنبعث من الماضي في الآونة الأخيرة هو بدون منازع حنا العتيق (الحنون)، القائد السابق لفرقة الصدم في القوات اللبنانية. بسلاح شرعية الماضي أراد أن ينافس زعامة معراب مؤسساً "الحركة التصحيحية" وساعياً إلى تجميع القواتيين القدامى. عتبه الأساسي، غير الشخصي، على جعجع هو أنه وافق على اتفاق الطائف. برأي الحنون، "المقاومة إما أن تنتصر وإما أن تهزم"، والطائف لم يكن نصراً. حاضراً، يرى أن على القوات لعب أدوار متعددة تبدأ بالاجتماعي وتمر بالرعائي وبالحث على "التكاثر" في لبنان وصولاً إلى "الدور الأمني في البلد" في حال توقفت المؤسسات الأمنية عن لعب دورها.

في تقريره المفصل إلى البابا فرنسيس عن أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط، اعتبر البطريرك مار بشارة الراعي أن "مسيحيي الشرق لديهم دور كبير لتأديته في سبيل ضمان الاعتدال الإسلامي". معه حق، ولكنه يجب أن ينتبه إلى أن المسيحيين ينحون شيئاً فشيئاً نحو اللا اعتدال، وحديثه يبدو من خارج الواقع المسيحي المُعاش.

نشر في www.almodon.com  في 2/6/2013