صورة المدونة

صورة المدونة

الخميس، 1 أغسطس 2013

ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة

آخر نشاطات الديبلوماسية اللبنانية كان حركة وزير الخارجية عدنان منصور للحؤول دون إدراج حزب الله على لائحة الإتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية. فشل التحرك. ولكن بغض النظر عن نتيجته فإن طبيعته وموضوعه يدلان على أمر خطير: لقد حُدّت الديبلوماسية اللبنانية، في سنواتها الأخيرة، بنشاط جلّ هدفه "ترقيع" الصيغة اللبنانية.

بغض النظر عن شخصية الوزير منصور والتي لا توحي بأنه صاحب حنكة، فإن عقم سياسة لبنان الخارجية ناتج عن أسباب أعمق بكثير من مؤهلات الوزير. جوهر الموضوع أنه من المحال على الدولة اللبنانية، بشكلها الراهن، أن تنتج ديبلوماسية فعالة. المقاربة نفسها يمكن تعميمها لتطال آخر تجارب شهدتها وزارة الخارجية اللبنانية.

الهدف من نشاط وزارة الخارجية الأخير كان دفع دول الإتحاد الأوروبي إلى غضّ النظر عن مشكلة كبيرة تتمثل في نشاط حزب الله الذي لم يكتف بتعقيد الوضع اللبناني الداخلي بل فاض عن حدود لبنان وبلغ مبالغ يصعب تحديدها بدقة. كل الحجج التي من الممكن أن تطرحها المنظومة الديبلوماسية اللبنانية ترتكز على واقعة وحيدة: لبنان دولة متعددة يجب أن يتمثل في مؤسساتها الدستورية كلّ القوى السياسية التي تمثل الطوائف اللبنانية! أو بمعنى آخر: ساعدونا على "ترقيع" صيغتنا نحن من لا نأبه بانعكاسات تناقضاتنا على الآخرين. مستحيل "تسويق" هكذا سياسة!

لسنوات خلت لم تستطع سياسة لبنان الخارجية، على مستوى المطالب الوطنية، سوى انتاج ديبلوماسية سلبية عقيمة حتى في سلبيّتها! غابت قضية استعادة مزارع شبعا ولم يتم إيقاظ مطلب ترسيم الحدود اللبنانية السورية على الرغم من الضحايا المدنيين الذين سقطوا بسبب عجز الدولة عن تحديد حدودها وحمايتها.

حتى في مسألة النازحين السوريين إلى لبنان، أغمضت ديبلوماسيتنا عينيها عن واقع أن المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان على أساس أنه أرض بلا سلطة سياسية. تدفق النازحون في ظل غياب أيّة خطة وطنية للتعاطي مع الأزمة. كل ما قامت به الديبلوماسية اللبنانية هو طلب بعض المساعدات لكي لا يمزّق ثقل النزوح الصيغة اللبنانية! وكانت النتيجة أن بدأت المساعدات الدولية بالتدفق، على الرغم من خجلها، من دون المرور بمؤسسات الدولة.

منذ فترة طويلة لم يعد المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان كدولة. حتى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أتى فرضاً، لكن مجلس الأمن أخرجه بطريقة تحفظ لنا بعض المتبقي من كرامة وطنية. وحين أرسلت مساهمة لبنان الأخيرة في تكلفة إدارة هذه المحكمة، أرسلت بطريقة غير مؤسساتية وبهدف "ترقيع" الصيغة وعدم مواجهة سنّة لبنان المصرّين على استمرار عملها.

صار نشاط الديبلوماسية اللبنانية يقتصر على أداء وظيفة "رسول الطوائف". تحلل الدولة اللبنانية أحدث فصلاً مخيفاً بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. لا يمكن للخارجية، إن فاوضت، وبغض النظر عن الموضوع أن تستجيب لأي مطلب يتعلق بالداخل اللبناني إلا بشرط موافقة السلطة الطائفية التي يعنيها هذا المطلب. أين هم المطلوبون من المحكمة الدولية على سبيل المثال؟ يظن ممثلو لبنان أنهم أذكياء وأن المجتمع الدولي اقتنع برسائل لبنان التي تدّعي أن الدولة تقوم بجهد للتحري عن المطلوبين. لا يعلمون أن "لطف" المجتمع الدولي مردّه إلى تأجيل إعلان لبنان دولة فاشلة لأن هكذا إعلان سيرتب عليهم مسؤوليات هم بغنى عن تحمّلها في المرحلة الراهنة.

المجتمع الدولي ادرك هذه الحقيقة منذ وقت طويل. فصار يفاوض صاحب الشأن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وتجاوز العلاقات المؤسساتية مع الدولة اللبنانية. صارت المفاوضات على "تحركات الأهالي" الموجهة ضد قوات اليونيفيل أجدى من خطابات الديبلوماسيين اللبنانيين في الأمم المتحدة.

لنختصر المشهد برمته. لبنان مجتمع مفكك تتناقض سياسات طوائفه الخارجية إلى حدّ خطر إندلاع حرب أهلية. لا يمكن بناء سياسة خارجية على هذا الكم من التناقضات. كل سياسة خارجية هي "تسويق" لتفاهمات داخلية. يمكن أن تنجح وزارة الخارجية في مهمة "التسويق" ويمكن أن تفشل. هذا يعود إلى الواقعية السياسية السائدة في العلاقات الدولية. ولكن لا يمكن لدولة أن تبني سياسة خارجية على مسائل تثير الخلاف في مجتمعها.

كل فشل في السياسة الخارجية سببه ليس تواطؤ المجتمع الدولي ولا أيّة مؤامرات متخيّلة، بل هو ناتج، بشكل أساسي، عن فشل اللبنانيين في بناء دولتهم وعجزهم عن الاتفاق على تصوّر مشترك لمستقبل لبنان واللبنانيين. ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة لم تعد مجدية فالصيغة اهترأت وما عاد من الممكن ترميمها إلا بميثاق وطني جديد.

منشور في www.almodon.com في 22/7/2013

ليست هناك تعليقات :