أقل ما يُقال عن
التعدّي على الشاب ربيع الأحمد، إبن بلدة حرار العكارية، إنه مرعب. مرعب ما يختزنه
قطع عضوه التناسلي من عنف وثقافة إلغائية وصلت إلى حد الاستئصال. ولكن أرعب ما فيه
هو أنه فعل غير منعزل عن مسار إلغائي بات يحدّد حركة الإجتماع اللبناني.
رمزياً، يحيل العنف
المختزن في ما فعلته العائلة البيصورية إلى إرادة استئصال أيّة علاقة قائمة مع
"الآخر". ليس العضو التناسلي كعضو، هو المستهدف في هذه الجريمة بل هي
العلاقة التي يرمز إليها العضو. على المستوى المادي هي جريمة استثنائية ببشاعتها،
ولكن على المستوى الرمزي تتقاطع مع جرائم كثيرة يرتكبها اللبنانيون بحق بعضهم
البعض وإن كانوا يغلفونها بكلام مزخرف أو يمررونها بطريقة شبه مخفيّة.
اقتصار الحديث عن جريمة
بيصور يبعد أنظارنا عن السياق الكبير الذي تندرج فيه. هو زمن البتر الذي وصلنا
إليه كلبنانيين متنوّعين. كل صلة عابرة لحدود مجتمعات التنوّع اللبناني شبه
المنعزلة باتت مهددة بالبتر. الأمثلة أكثر من أن تحصى، والمشتركون فيها يتوزّعون
على كافة الطوائف اللبنانية. لا فضل لطائفة على أخرى إلا بطريقة البتر.
تتعدد الأشكال وبتر
الصلات بين اللبنانيين المختلفين واحد. عندما وقع الاعتداء على الشيخين في منطقة
الخندق الغميق كانت الحادثة مؤشراً على الدرك الذي وصلت إليه الصلات بين السنّة
والشيعة والتي ما عادت تتحمل مروراً آمناً للسنّة (أقلّه للكثافة السنّية معبراً
عنها بمظهر اللحية والشاربين المحفوفين) في الأحياء الشعبية الشيعية. وفي المقابل
كان هجر بعض أصحاب المصالح والسكان الشيعة لمنطقة الطريق الجديدة بسبب تعديات
تعرّضوا لها مؤشراً على المأساة نفسها في المقلب الآخر.
كلّما دارت اشتباكات في
طرابلس يستغل بعض الغلاة المناسبة ويقومون بحرق محلات العلويين في قلب المدينة.
ليس هذا سوى بتر للعلاقة التي تقوم بين أبناء الطائفتين السنّية والعلوية في عاصمة
الشمال.
البتّارون يطوفون بحرية
في كلّ البيئات الطائفية اللبنانية. أحد الكتاب اعتبر أن قرية علما الشعب الجنوبية
الحدودية انضمت إلى "لائحة الشرف" حين رفض مخاتيرها توقيع علم وخبر لنقل
ملكية قطعة صغيرة من الأرض لا تتعدى مساحتها ثلاثة دونمات من أحد أبنائها إلى
"غريب". ولخصت صحافية واقع "أراضي المسيحيين" بالتالي: "مثلما
باع يهوذا السيد المسيح بقبلة وحفنة من الدراهم، هكذا يفعل المسيحيون اليوم
بأراضيهم... بقبلة الإستغناء ورزمة من العملة الخضراء".
إنه مديح البتر في
ثقافتنا المأزومة. وهو ليس ثقافة شعبية فقط بل يجد تعبيرات عنه في كلام السياسيين.
فالنائب بطرس حرب اقترح قانوناً يمنع بيع الأراضي بين أبناء الطوائف اللبنانية
المختلفة. وزميله سامي الجميّل قال مرّة إن بيع المسيحيين لأراض واقعة في منطقة
الشوف وعاليه للبنانيين شيعة يعتبر تعدّياً على "مناطقنا وتاريخنا وهويتنا
وأرضنا وشهدائنا ونضالنا، ويجب أن نواجههم". ومن جانبه أيضاً، دعا إلى إقرار
قانون "يهدف إلى الحد من عملية بيع الأراضي التي تحصل بشكل همجي".
الجميّل غلّف مقاصده بخدعة من خلال استبداله كلمة الشيعة بحزب الله. أراد تلطيف
مديحه للبتر بغلاف سياسي ـ استراتيجي.
ولكن بلديات الحدث
وكفرشيما، حين ترفض تسجيل شقة سكنية يشتريها لبناني شيعي أصدق في ممارستها من
النائب الشاب. كذلك الأمر بالنسبة لـ"لجنة المتابعة في القبيات" التي
تضم ممثلين عن القوى السياسية في البلدة حين ندّدت "بالعمل المشين" الذي
أقدم عليه أحد أبناء البلدة ببيعه أرضه "بطريقة مخادعة و سرّية"،
واعتبرت أنّ كل محاولة لشراء أرض من القبيات هو "تعدّ على القبيات
وأهلها".
صار كل اختلاط بين
اللبنانيين يقع في دائرة المهدد بالبتر. أمام هذا الواقع، هل نقتنع بكلام
رئيس بلدية بيصور حين قال "إن الجريمة فردية" وليس لها أيّة تداعيات
طائفية؟ وهل نأمن لاعتبار الحزب التقدمي الإشتراكي أن ما وقع في بيصور هو "مسألة
شخصيّة"؟
أصبح ملحاً فتح ملف
العلاقات بين اللبنانيين بشكل صريح، وإيقاف المهزلة التي تطلّ علينا بجرائم
وبشاعات مختلفة. ما يحصل في لبنان "بالمفرّق" يقضي "بالجملة"
على الصلات القليلة الباقية بين اللبنانيين.
منشور في www.almodon.com في 19/7/2013
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق