صورة المدونة

صورة المدونة

الثلاثاء، 4 ديسمبر 2012

معارضون علويون سوريون: "لم نعد نريد رمزاً"

الأسئلة التي يطرحها معارضون علويون سوريون على أنفسهم خاصة جداً. لا تكتفي بحقيقة كونهم معارضين للنظام، بل ترتبط بواقع انتمائهم إلى طائفة متّهمة بالهيمنة على باقي مكوّنات المجتمع السوري. بين بيئة متردّدة، ومجتمع أطلق العنان لمكبوتاته، يحاول العلويون شق طريق معارض يحقق لهم طموحاتهم.



"على السوريين أن يدخلوا إلى القرداحة ويقتلوا كل عائلة الأسد، من شيوخهم إلى أطفالهم كي يقضوا على هذا النسل الديكتاتوري"، قال أحد المعارضين العلويين لـ"NOW"، وإلى جانبه معارضة دمشقية تنتمي الى الطائفة السنّية. وخلال سرد هذا المعارض لنشاطاته خدمةً للثورة والثوار في الداخل السوري، أفلَت من رفيقته التعليق الآتي: "أنت علوي. ما بيصير عليك شي".

كلمات قليلة أفقدت المعارض العلوي رباطة جأشه فصاح بها: "عندما أخذت المخابرات والدي وأنا طفل وسجنته لمدّة 10 سنوات كنتِ وأمثالك تتمتعون بخدمات النظام". والد هذا الشاب واحد من علويين كثر كانوا منضوين في "حزب العمل الشيوعي"، الحزب "المحرّم" في عهد الرئيس حافظ الأسد.

المعارضة "العلوية"

تتعدد آراء العلويين في خصوص ما يحصل حالياً. عسكرة الثورة السورية و"اليقظة الطائفية" المصاحبة لها قلّلت من عدد العلويين المعارضين للنظام. إلا أن بين الوجوه البارزة في المعارضة السورية علويين. غالبية المعارضين العلويين تنتسب إلى بيئات معارضة منذ 30 سنة أو أكثر. بعضهم عارض النظام منذ نشأته عام 1970، حين أحبطت "الثورة التصحيحية" الآمال المعقودة على صلاح جديد ورؤيته لدور حزب "البعث".

وإلى هؤلاء، في كل بيئة علوية صغيرة هناك عائلات الوجهاء الذين أقصاهم "البعث" عن زعاماتهم الصغيرة، ولا يزال تأثير إقصائهم حاضراً بشكل أو بآخر. يتفق معظم من التقى "NOW" بهم على عدم اعتبار رفعت الأسد ومؤيديه من "المعارضين". "هذا خلاف داخل العائلة الواحدة على المناصب والمنافع وليس خلافاً بين رؤيتين لمستقبل سوريا"، يقول سالم (اسم مستعار كما كلّ الأسماء التي سترد لاحقاً).

إلى هذه التنويعات، هناك شباب كثر يؤيدون الثورة السورية انطلاقاً من خبرة ذاتية تبدأ بتوقهم للديموقراطية ولا تنتهي بامتعاضهم من سطوة "الشبّيحة" على مجتمعاتهم.

المجتمع العلوي متنوّع. هذه حقيقة غائبة عن وسائل الإعلام. ولكن، بحسب ما يؤكد المعارضون أنفسهم، فإن أكثرية العلويين ينظرون إلى سقوط النظام كـ"إلغاء لوجودهم"، ويعتبرون أن الثورة "حرب على عقيدتهم كعلويين". يستعيد هؤلاء ما كان يُروّج في أوساطهم في بداية ثمانينات القرن الماضي من أن "الإخوان المسلمين يشنون حرباً تهدف إلى اغتيال الخبرات العلوية العلمية والثقافية لإضعاف موقع الطائفة". "إذا ما سقط النظام فإما سنهاجر أو سنتمترس في اللاذقية وطرطوس والمناطق العلوية"، يردّد عدد كبير من أبناء الطائفة.


العلويّون بين الردّة والثورة

بعض العلويين ممن كانوا معارضين للنظام البعثي أيام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ارتدّوا وتضامنوا حالياً مع النظام الذي يرأسه إبنه بشار. تروي مريم، إبنة مدينة دمشق، قصة "صديق" توفي والده بعد أشهر قليلة من خروجه من سجون النظام حيث قضى سنوات عدّة. رغم ذلك، يتفانى هذا "الصديق" في الدفاع عن النظام ويتطرف إلى حدّ النطق بشعارات "اضربهم بيد من حديد" و"يجب تحويل درعا إلى مزارع بطاطا". حالة هذا "الصديق" ليست حالة معزولة. "سجناء كثر تعذبوا في السجون السورية ويتضامنون الآن مع النظام في مواجهة ما يعتقدون أنه مؤامرة أو حالة سلفية قادمة"، تخبر مريم.

مريم حديثة العهد في معارضة النظام ولكنها كانت تعتقد أن التغيير في سوريا مستحيل. "أذهلني مشهد تمزيق صور حسني مبارك وشعرت بأن ما يقوم به المصريون هو حدث خارق. ورغم ذلك لم أكن أصدق بأن هذا الأمر ممكن في سوريا". بدأت الثورة ووجدت مريم نفسها في خضمها. "أقاربي المؤيدون للنظام يعرفون أنني معارضة ولكنهم يتعاملون معي كـ"جدبة" مغرر بها "وبكرا بتوعى". برأيهم أنا من "المضحوك عليهم" لا من محيكي المؤامرة".


ثائر علوي أم ثائر سوري؟

ينشط العلويون في الثورة السورية في المناطق المختلطة طائفياً بشكل خاص. من دمشق إلى حمص إلى جبلة وبانياس وطرطوس تختلف نسب مشاركتهم. والسؤال الذي يطرحه الجميع على أنفسهم هو: بأيّة صفة نشارك؟

"قررت الإنخراط في الثورة بهويتي المدنية كسورية"، تؤكد مريم. "أكره من يقول أنا علوي ومعارض. وكأنه يريد منك أن تشعر بالإمتنان له"، تضيف.

بعض المعارضين العلويين يفضلون التأكيد على علويتهم كجزء من هويتهم. "مع الأسف، نعرّف بأنفسنا كعلويين سوريين لكي نغيّر الصورة النمطية للعلويين كمتحلقين حول نظام آل الأسد"، يقول سالم، وعند سؤاله عن إمكانية نجاح هذا التكتيك يتردد ويجيب: "نحن نحاول".

في التظاهرات الطيارة التي شاركَت فيها في حي الميدان الدمشقي، في بدايات الثورة، اضطرت مريم في إحدى المرات إلى ولوج منزل من منازل الحي التي يبقي أصحابها أبوابها مفتوحة لتمكين المهددين من الإلتجاء إليها. "لم يسألني أحد عن طائفتي قبل إدخالي"، تروي. هذه التجربة جعلتها تستخلص أن السوريين لا يميزون بين المعارضين بحسب هوياتهم الطائفية. بسّام، المحامي الشاب، عاش ذات التجربة مع فارق أن إحدى النساء راحت تشتم العلويين أمام المجموعة الهاربة. "أنا علوي يا عمتي" قال لها، فارتبكت السيدة وراحت تعتذر منه شاتمة الحالة التي وصل إليها السوريون.

ذات مرة ذهبت مريم إلى تظاهرة محميّة (يحميها الجيش الحر) في حرستا. "حين وصولي، عرف أحد المنظمين أنني علوية فطلب مني الانتظار في مكاني قليلاً. بصراحة خفت ومرّت أفكار كثيرة في رأسي عن سحلي وما شابه. ولكن تبين لي أن هدف هذا الشخص هو الذهاب إلى مردد الهتافات والطلب منه الترحيب بوفد يمثل الطائفة العلوية". عندما يعرفون أنك علوي يقولون لك "شكراً على موقفك"، يؤكد بسام.

في أوساط المعارضين الميدانيين، "درج الآن مصطلح العلوي الشريف والعلوي العادي"، تخبر مريم. عند استعادة الحديث مع سالم يعلّق: "نحن، أثناء قيامنا بواجبنا، نعمل على زيادة عدد العلويين الشرفاء" ويبتسم.

العلويون في سوريا المستقبل

على مفرق مدينة جبلة، أقام العلويون سوقاً للخضر كي لا يذهبوا إلى السوق القديمة التي يتشاركونها مع جيرانهم السنّة. ينكمش العلويون في مناطق سكنهم ويبحثون عن صفاء آمن.

هذه ليست حالة المعارضين الذين، رغم نشاطهم، يعترفون بقلقهم عند التجوّل داخل سوريا من دفع ثمن فضح كنيتهم لطائفتهم على أحد حواجز المعارضين المتطرّفين. "سنقاتل حتى القضاء على آخر علوي". هذه جملة تسجلها ذاكرة إحدى الناشطات العلويات من لقاء جمعها بمقاتل في "كتيبة الفاروق"، ترك دراسة الهندسة في لندن لينخرط في صفوف الثورة.

"أظن أن غالبية المعارضين لا تميز طائفياً"، تقول مريم وتضيف أن التوتر الطائفي سببه دعاية النظام وتصرفات يولّدها أشخاص يريدون زيادة أسهمهم في بازار السياسة كنائب سابق قال ذات خطبة: "أيها الحقيرون من الطائفة العلوية"، متناسياً الخراف التي كان ينحرها في الشام للاحتفال بالتجديد لحافظ الأسد. والحالة الإسلامية المتطرفة؟، أسألها. "هذا سبب آخر مقلق"، تجيب.

سالم متيقّن من أن حقيقة الشعب السوري تختلف عن الصورة التي يقدّمها الإعلام الباحث عن "الإثارة والتشويق". "بعد سقوط النظام ستنشأ دولة مدنية ديمقراطية"، يقول.
مريم أقل تفاؤلاً من بسام. رغم ذلك تقول: "أحب ترك الأمور للتجربة وللمستقبل. سأحزن في المستقبل إذا تعرضت للتمييز السلبي ولكنني أرفض أن يقيدني الخوف من هذا الاحتمال. مخاوفنا لا يجب أن تشلّنا".

عند سؤال مريم عمّن تثق به من وجوه المعارضة البارزة تتردد. "السؤال صعب. أحب الشعب الثائر وأكره القيادات"، وتضيف: "لم نعد نريد رمزاً".

(نشرتها على موقع ناوليبانون نهار الاثنين 3 كانون الأول 2012)

الأحد، 25 نوفمبر 2012

هل نلغي "عيد" الاستقلال؟

"سنة بعد سنة، كنت حريصاً على تلبية هذه الدعوة، ظناً مني، بل معاندة، أن المشاركة في هذا الاحتفال إنما هي تأكيد لمطلب الإستقلال، مع أن هذا المطلب كان يبدو، سنة بعد سنة، أبعد وأبعد عن واقع الحال أو السعي. لكن ما أراني مضطراً إلى رؤيته اليوم، وبعد كل هذه السنوات، أن الاسترسال في هذا الأمر، من دون وقفة واضحة أمام ما آل إليه هذا الاستقلال بالفعل، يبدو كأنه تسليم بأن استقلال لبنان لا يعدو أن يكون تسمية بلا مسمى". هذا ما قاله الرئيس حسين الحسيني في رسالة أعلن فيها اعتذاره عن عدم المشاركة في الاحتفال.

صرخة. منبّه. نداء ضمير... لنسمِّ كلام الحسيني كما نشاء. تسع وستون سنة مرّت على ذكرى الاستقلال ونحن لا نزال نتحدث عن بناء الدولة! ما الذي استقلّ يا ترى؟ لدينا استقلال وليس لدينا دولة. عندما نتحدث عن الاستقلال ننسى تأسيسه على فكرة الدولة. وعندما نتحدث عن الدولة ننسى تأسيسها على واقع المجتمع. لا أدري كيف لا تكون ثلاثية الاستقلال – الدولة – المجتمع مترابطة في اللغو السياسي "الوطني". لعلّ الإجابة تكمن، ولو جزئياً، في سيادة منطق إمرار الزمن وتقطيع الاستحقاقات "بالتي هي أحسن". ولكن إلى متى هذا التيه؟ حديث اللبنانيين في السياسة الوطنية يشبه إلى حد كبير الحديث الذي يدور في مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو". الدولة هي غودو المنتظر، وكل حديث في انتظارها لا يعدو أن يكون أكثر من ملء فراغ الانتظار. ما أصعب الانتظار!
ولم نتقومن!
يعيش اللبنانيون حالة انفصام في علاقتهم بالدولة. الدولة هي إنتاج حداثي بامتياز. هي متساوقة مع عملية "القومنة"، بحسب مصطلحات كمال يوسف الحاج، أحد الذين حاولوا وفشلوا في التأسيس الفلسفي لفكرة الوطن اللبناني. هكذا ظهرت الدولة في السياق الأوروبي. في العالم العربي تشكلت الدول الوطنية من دون ارتباط بفكرة تبلّر القوميات والتوق إلى العيش المشترك وإلى تنظيم المجتمعات القومية باستقلال نسبي عن الجيران.
تشكلت الدول الوطنية في العالم العربي ولم تتشكل الهويات الوطنية. في كلّ مواطن عربي نزاع بين 3 هويات أساسية: الهوية الوطنية والهوية ما دون الوطنية والهوية ما فوق الوطنية. تتخذ الهوية ما دون الوطنية شكل الهوية الطائفية في المجتمعات المتعددة، أو شكل الهوية العشائرية في المجتمعات المتجانسة طائفياً. وتتخذ الهوية ما فوق الوطنية شكل الهوية القومية الكبرى، عربية أكانت أم سورية أم هاشمية، وتتستر لدى آخرين برداء النموذج الحضاري الذي يجب الاقتداء به. كيف لإطار نتجاذبه من طرفيه أن يستطيع الصمود؟ لم تشهد أي دولة عربية استقراراً بلا استبداد وغلبة سافرة! لبنان لم يشهد غلبة (بالمعنى العربي) في تاريخه.
من ناحية أخرى، ليست بنية المجتمع اللبناني حداثية. يعيش اللبنانيون حياة ما قبل حداثية إلى حد بعيد (يومياتنا وتفاصيلها) في إطارات شكلها حداثي (دولة ومؤسسات). في مكان ما، علينا مواجهة هذا التحدي والكف عن التفاجؤ من تحدّي أسلوب حياة اللبنانيين ما قبل الحداثي للدولة. هذه مسألة طبيعية. هذا التعارض هو ما يفسّر خروج أشخاص وجماعات عن القانون، وهو ما يفسّر شلل مؤسسات الدولة وأمور أخرى كثيرة. القيم المختلفة للبيئات اللبنانية المحلية تختلف عن قيم دولة القانون والمؤسسات على المثال الغربي. الرداء (الدولة) غير متناسب مع مرتديه (المجتمع).
كل الأمم التي تشكلت ونجحت شعوبها في بناء دول حديثة ومستقرة، قامت بالتضاد مع عدوّ جار. اللبنانيون لم يتفقوا يوماً على عدوّ مشترك ليبنوا وحدتهم في مواجهته. أنشئت الدولة اللبنانية ونصّبت كل جماعة لبنانية جماعة أو جماعات أخرى أعداءً لها. أجل أعداء. لم يعد ينفع التواري. اللبنانيون أعداء بعضهم البعض. كل مَن حمل السلاح منهم، أدلجه إنطلاقاً من فكرة الحماية الذاتية، وكل مفاوضة على تسليم السلاح للدولة كانت ترتبط بفكرة الضمانات. فات الأوان على التوحد بالتضاد مع عدوّ جار. لكن الأوان لم يفت ولن يفوت على بناء وحدة لبنانية حول منظومة جذّابة تبزّ المنظومات الجماعاتية. لكي نبني أمة ولكي نبني وطناً، علينا الإبداع!
أمام هذه الانفصامات لا نزال نتحدث عن الدولة وبنائها بأفكار أقل ما يمكن أن توصف به هي الميوعة. لنقل إنها محاولات لإسقاط نماذج على مجتمعاتنا، لم يتعظ محاولوها من عشرات السنين من الفشل.
الدولة فكرة
الدولة هي فكرة. فقط فكرة. من هنا قابليتها السريعة للإنجراح. صحيح أن الدولة صارت في أذهاننا، مرتبطة بمجموعة مؤسسات، ما يغرينا بالظن أنها شيء صلب وقادر وما إلى ذلك. ولكن لا. الدولة فكرة ليّنة لا تشتدّ إلا بممارسة القمع ضد كل من يتحدّى نموذجها الحداثي ومنع أي جماعة من امتلاك ما يمكن أن يهدد وحدة الدولة وتكاملها. لم يحصل اشتداد كهذا في الحالة اللبنانية بسبب تعددية المجتمع أساساً وبسبب تشكّل الطوائف اجتماعياً قبل انضوائها تحت راية الدولة الجامعة.
منذ تشكلها، لم تقم الدولة اللبنانية بالعمل الدؤوب الذي كان عليها القيام به أولاً، على الصعيد الأمني لأداء وظيفة الحامي للأمن الشخصي التي لا تبزّها منظومات الحماية المحلية. لا بل بالعكس، في حقبات كثيرة دفعت الدولة المواطنين إلى بناء منظومات أمان للتعويض عن غياب الدولة، ما أدى إلى تفاقم مشكلة لا نزال نعيشها؛ ثانياً، على الصعيد الاقتصادي لربط الجماعات اللبنانية مصلحياً بمنظومة اقتصاد وطني يحقق لها نوعاً من الرفاهية التي لا تحققها البيئات المحلية. الانتماء إلى إطار هو فكرة مصلحية وكل ما عدا ذلك هو فلسفات مكمّلة. إذا فكّرنا في مشروع الليطاني وعقود مرت دون تنفيذه مثلاً، نعرف لماذا فكرة الدولة غير جذّابة!
لم يفتنا القطار. ولن يفوتنا. في عالمنا الراهن، سنبقى لعشرات السنوات منظوراً إلينا كشاغلي مساحة جغرافية هي خريطة لبنان. علينا تدبّر أمورنا على هذه المساحة. أجل هي عينها المساحة التي حددتها الاتفاقات الانكليزية الفرنسية (نقول سايكس بيكو اختصاراً). على هذه الأرض علينا بناء دولتنا. منذ فترة أسفت لكلام قيادي سياسي كبير استهزأ بشرعية حدود لبنان لتبرير سياسة ظرفية. كلام كهذا، إن دلّ على شيء، فعلى قصر نظر وعلى تغليب المصالح الآنية المتبدّلة على التفكير الاستراتيجي "الوجودي".
تحضرني ترّهات تعتبر أن الحديث عن بناء الدولة والوطن هو حديث متقادم في عصر العولمة و"المواطنة العالمية". ترّهات عمياء عن رؤية أبسط أمور الحياة، من مثل أن عبور حدود الدول يحتاج إلى تأشيرات، ومن مثل أن منظومات القوانين ليست موحّدة. لا شك في أن وظائف الدولة قد تراجعت في السنوات الثلاثين الأخيرة ولكن صفة "المواطنة العالمية" لا يكتسبها (لا يستحقها؟) مواطنو الدول الفاشلة. ومن لا يصدّق فليختبر بنفسه تقسيم مواطني العالم درجات في مطارات الدول الغربية.
فكرة الدولة اليوم لا تمتلك إمكان التحقق في الظروف الراهنة. نحن بحاجة إلى وقفة تأمل تبدأ بإعلان فشلنا وفشل كل من سبقنا، وافتتاح عملية إبداع شكل الفكرة التي نقبل بها جميعاً كلبنانيين. علينا إعمال عقولنا في التفكير في وظائف للدولة نرتضيها جميعاً. وعلينا ابتكار الشكل المنوط به أداء هذه الوظائف والسماح له، لمرّة واحدة وأخيرة، بالاستقلال عن الجماعات اللبنانية، وممارسة القمع على أيّ ردّة. بمعنى آخر، علينا التوصل إلى اتفاق حقيقي ناتج من اقتناع كل الجماعات اللبنانية بأن مصلحتها تحققها الدولة، لا إلى اتفاق تقطيع وقت على شاكلة وثيقة الوفاق الوطني، التي وقّعها الفريق المنتصر في الحرب وهو متيقن بأنه يستطيع انتهاكها، ووقّعها الفريق الخاسر في الحرب على أمل أن يخرج منها مارد يؤمّن له "حقوقه"، واتفاق الدوحة.
مواثيق ضد الدولة!
في السياسة اللبنانية يعلى من شأن الاتفاقات الجماعاتية على حساب الدستور الجامع. كثيرون يتحدثون عن تعديل اتفاق الطائف أو المحافظة عليه، ولا يتحدثون عن تعديل الدستور أو المحافظة عليه. هذا يحتاج إلى وقفة تأمل.
بعض المثقفين اللبنانيين حاول التأسيس على أهمية المواثيق في حياة الأمم. أعتقد أن جهودهم الكبيرة ذهبت هباءً منثوراً. فكرة الميثاق الوطني وأهميته لا تمسّ أحاسيس اللبنانيين الشيعة لأنهم لم يكونوا شريكاً في الميثاق وخصوصاً أن ما كان يسمّيه اللبنانيون "الاسلام السياسي" تفكك. لم يعد من معنى للتنازل عن مطلب الوحدة العربية ولا للتعهد بعدم الإندفاع غرباً. لم ينجح اللبنانيون في تأسيس أمة على فكرة الميثاق الوطني. الآن انتهت مدّة صلاحيته.
تبقى "وثيقة الوفاق الوطني" آخر المواثيق الوطنية اللبنانية. مذ اتفق اللبنانيون (معظمهم) على هذه الوثيقة، حتى اليوم، لم ينجحوا في تأسيس دولة ما بعد الحرب الأهلية المستقرة. ارتبطت فكرة إنهاء الحرب الأهلية في أذهان اللبنانيين بالاتفاق الدولي على إنهائها لا بروح اتفاق الطائف الذي أخرجه هذا التوافق الدولي. لم يكن الحس الشعبي مخطئاً.
تعدّل الدستور اللبناني عام 1991 استناداً إلى النصوص المتوافق عليها في اتفاق الطائف. تحددت علاقة جديدة بين السلطات الدستورية والطوائف اللبنانية. كل ما له علاقة بموقع الطوائف اللبنانية في الحكم اللبنانية تدستر. لا يبقى الشيء الكثير الأهمية في الاتفاق. حتى البند الذي اكتشفه البعض حديثاً والذي يتحدث عن حلّ الميليشيات لطالما تم تفسيره، وبتوافق وطني، على أساس أنه يستثني الميليشيات المقاومة. إن المواثيق الوطنية ليست مواويل ليعاد غناؤها كلما شئنا. الميثاق الوطني التأسيسي يفرض تأويله منذ اللحظة الأولى ولا يمكن إعادة تأويله بعد مرور الزمن إلا بميثاق جديد.
نعود إلى السؤال أعلاه: لماذا يتحدث السياسيون عن وثيقة الوفاق الوطني ولا يتحدثون عن دستور الدولة؟ مصطلح وثيقة الوفاق الوطني يحمل فكرة أن جماعات مختلفة جلست وقبلت به. مصطلح الدستور لا يحمل هذا المعنى، فهو يرتقي رمزياً إلى مرتبه الجامع وينفصل، رمزياً ومادياً، عن واضعيه. القوى السياسية اللبنانية ترفض التنازل الرمزي لمصلحة الدولة الجامعة. تريد تقليص الدولة إلى مستوى خريطة موضوعة على طاولة، كطاولات التشاور والحوار التي تعتدي على مؤسسات الدولة ورمزيتها الجامعة.
إن بناء دولة لبنانية تستحق الاحتفال بأعياد لاستقلالها أو استقلالاتها، ليس مسألة سهلة. إنها مسألة تحتاج إلى إبداع صيغة تستجيب لهواجس كل الطوائف والجماعات اللبنانية وتضمن عدالة مشاركتها في الدولة الجامعة.
ليس القصد من كلّ ما سبق تعقيد المسألة لإخراجها من التداول. بل هو كلام صريح في ذكرى تعني لي شخصياً الكثير، في لحظة ألم من الإعتراف بالانتماء إلى وهم! نستطيع تأكيد بديهيات أن لا دولة بلا حصر السلاح في أيدي سلطة مركزية وبلا إلغاء طائفية التوظيف وبلا سدّ مزاريب الفساد وبلا وضع آليات لحرمان الجماعات اللبنانية من ارتباطاتها السياسية ـ المالية مع الخارج. لكن الطريق إلى تحقيق هذه البديهيات الوطنية وبقية عناصر الصيغة تحتاج إلى إبداع.

(نشرتها في النهار، السبت 24  تشرين الثاني)

الاثنين، 19 نوفمبر 2012

أكراد سوريا المعارضون... كل الطرق تمرّ عبر الفدرالية

في سوريا، تختلف النظرة إلى الواقع السوري وإلى الثورة السورية تبعاً لتتعدّد الإنتماءات الإجتماعية. الأكراد السوريون ليسوا حالة شاذة عن هذه القاعدة. عين على سقوط النظام وعين أخرى على حراك المعارضة السورية، يبنون قدراتهم في ظل تباينات على الساحة الكردية تُجمع جميعها بأن كل الطرق يجب أن تؤدي إلى الفدرالية.


يرفض السوريون الأكراد المعارضون كل حديث لا يبدأ من الاعتراف بأنهم كانوا منذ البداية جزءً لا ينفصل عن نسيج الثورة السورية ولا يزالون. يؤكدون بفخر، مرة تلو الأخرى أن مناطقهم التي يُنتقدون لأنها ما زالت "آمنة" تحتضن مئات آلاف اللاجئين العرب. أحداث القامشلي عام 2004 تؤكد، بحسب المعارض الكردي المستقل والكاتب جكو اسماعيل محمد، أن "الربيع الكردي سبق الربيع العربي بسبع سنوات".

الخارطة السياسية للأكراد
تتصدر الساحة السياسية في مناطق انتشار الأكراد "الهيئة الكردية العليا" التي تشكلت في مؤتمر أربيل وتضم حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي (ب.ي.د) والمجلس الوطني الكردي وتنظيمات أصغر حجماً تدور في فلك توافق الأكراد في أربيل.
منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية، كان ب.ي.د، أكبر الأحزاب الكردية وأكثرها تنظيماً، يعمل على تشكيل مجالس حكم محلية كردية. اندلاع الثورة السورية ساعده على تحقيق طموحه على أرض الواقع. وجاء انسحاب المجلس الوطني الكردي من المجلس الوطني السوري ثم انعقاد مؤتمر أربيل، في تموز 2012، ليضفي على خططه طابع الإجماع الكردي. أهم بنود اتفاق أربيل تمثل بتقاسم الإدارة في المنطقة الكردية مناصفة بين ب.ي.د والمجلس الوطني الكردي وبتشكيل "وحدات الحماية الشعبية" ومهمتها حماية المناطق الكردية من اعتداءات أي طرف كان. ب.ي.د وعساكره العائدون من جبال قنديل في تركيا هيمنوا على هذه الوحدات.
تنشط التنسيقيات الشبابية الكردية في مناطق انتشار الأكراد. هي متمثلة في المجلس الوطني الكردي ولكنها نشأت بعيداً عن السياسة الكردية التقليدية. شباب التنسيقيات "تعبوا من الإلتزام بالأوامر الحزبية ومن التحرك دون حرية"، يشرح الناشط في اتحاد تنسيقيات شباب الكُرد هافال.
تختلف التسميات ولكن الأكراد السوريين الذين تراجعوا بواقعية عن "الحلم الكبير" بكردستان لا يقبلون بأقل من سوريا فدرالية. "تجربة الأكراد منذ ما قبل انهيار السلطنة العثمانية ولّدت لديهم مخاوف قوية لا يمكن لأي حكم مركزي أن يعالجها"، يقول عضو اتحاد شباب تنسيقيات الكُرد كادار بيري. هذا الشيوعي السابق بات مقتنعاً بأنه لا يمكن تجاوز "عطش الأكراد إلى حكم أنفسهم ذاتياً". التنسيقيات نفسها، كان في صلب نشأتها شعور شبابي بالامتعاض من "الانتقاص في حقوق الأكراد" لعدم قيام ب. ي.د، في البدايات، بالمطالبة بالفدرالية واكتفائه بالمطالبة بإدارة ذاتية، يقول هافال.
الإلتفاف الكردي حول "الهيئة الكردية العليا" مصدره الشعور القومي الكردي والقلق من المستقبل. "الأكراد ملتفون حالياً حول ب.ي.د لأننا ملتزمون بمساندة بعضنا البعض كأكراد"، يشرح هافال. ولكن المجتمع الكردي يشهد حراكه الخاص الذي يصل إلى حد مطالبة هذا الشاب بـ"ربيع كردي بعد الربيع العربي". هو أيضاً يلوم ب.ي.د "لأن أفراده عادوا إلى سوريا بأجندة حزبية لا بأجندة وطنية كردية أو سورية. يتصرفون على أساس أن الشعب في خدمة الحزب لا على أساس أن الحزب في خدمة الشعب". ب.ي.د، بحسب جكو، يمارس الهيمنة على الأكراد ويضيّق على كل نشاط كردي مستقل ومن واقع هيمنته تُطرح تساؤلات حول كيفية اغتيال معارضين أكراد بارزين في المناطق الكردية.
بعض الأكراد المعارضين، ككادار، يطالبون "بمشاركة كردية أكثر فعالية في الجانب العسكري للثورة السورية". هو مطلب يتعارض مع الميل الكردي العام. "أي خطاب كردي يطالب بعسكرة الحراك في غربي كردستان سيكون خطاباً منبوذاً من الأكراد السوريين لأن نتائج الإنخراط في الجانب العسكري من الثورة سيرتد سلباً على كل الشعب الكردي وكذلك على اللاجئين العرب في مناطقنا"، يقول هافال جازماً. ينزع جكو قناع الدبلوماسية ويؤكد أن "الثورة السلمية تخدمني أكثر ككردي. أنا أقلية في الوطن السوري وهذا يعني أنني الحلقة الأضعف".
الأكراد ينظرون بإيجابية إلى عمل ناشطي التنسيقيات ولكن، في الوقت عينه، "يعتبرونهم غير ناضجين سياسياً لتمثيل الشعب الكردي في المستقبل"، يوضح جكو.

عين الأكراد على المعارضة
المعارضة السياسية بالنسبة للأكراد هي المجلس الوطني السوري فقط لا غير. ولكنهم يُجمعون على الخشية من مواقف صدرت عن بعض أعضاء المجلس. كلّهم يسجلون في ذاكرتهم مقارنة برهان غليون، الرئيس السابق للمجلس الوطني، بين الأكراد السوريين والمغاربة في فرنسا نازعاً عنهم الأصالة في الإنتماء للوطن. كلّهم يسجّلون في ذاكرتهم رفض المجلس الوطني السوري تسمية سوريا بالجمهورية السورية وخضوعه لاقتراح تسميتها بالجمهورية العربية السورية ما أدى إلى انسحاب المجلس الوطني الكردي من المجلس. كلّهم يسجّلون في ذاكرتهم تصريحات تدعي بأن عددهم في سوريا لا يتجاوز الخمسمئة ألف فيما هم أربعة ملايين.
المجلس الوطني السوري "خطابه مفرّغ" كما أنه "لم يحترم حرمتنا كأكراد"، يقول جكو. "كيف نخطط لبناء دولة ديمقراطية ونسميها باسم جزء معيّن من الشعب السوري؟" يتساءل هافال. رفض جكو الذهاب إلى اجتماعات للمعارضة في اسطمبول. "لا أستطيع احتمال رفرفة العلم التركي فوق رأسي"، يقول. أما هافال فيرد خلافه مع المجلس الوطني السوري إلى أن "بعض أعضائه ينفذون أجندات خارجية دون اعتبار للشعب السوري الثائر الذي دفع، حتى الآن، أكثر من 40 ألف شهيد". سهام النقد تطال ثقل الإخوان المسلمين في المجلس. "فكر الإخوان شوفيني ولا يمكن الحوار مع الفكر الديني"، يقول جكو.
يلخّص كادار هذه الملاحظات المتضمنة ريبة الأكراد. يتساءل عن "السبب الذي دفع المجلس الوطني السوري إلى تحديد موقفه من مختلف قضايا سوريا ما بعد البعث دون تحديد موقفه من المطالب الكردية". هو يعزو السبب في هذا التقصير إلى تأثير تركيا والإخوان المسلمين على عمل المجلس الوطني السوري.
الأكراد ينظرون بخشية أيضاً إلى عمل الجيش السوري الحر. لحظة تسليم المخابرات التركية القائد المنشق حسين هرموش إلى المخابرات السورية هي لحظة مفصلية في روايتهم لقصة هذا الجيش والتي تتضمن اتهام تركيا بالتواطؤ مع النظام السوري على الأكراد. ولكن عند الحديث عن بعض تصرفاته يحرصون على نقده دون نزع الشرعية عنه. كادار ينتقد سلوكه تجاه المناطق الكردية في الأشرفية في حلب وفي عفرين ولكنه يبرر ما حصل بأن "الجيش السوري الحر هو تشكيل ولدته أحداث متسارعة وليسوا خريجي أكاديميات عسكرية". ورغم أن كتيبة صلاح الدين التي تضم أكراداً بين عناصرها هي من اقتحمت حي الأشرفية، إلا أن جكو يعتبر أنها لم تخن الكرد ويقول: "هي بصمتنا في الثورة السورية، هي جواز سفر الأكراد إلى سوريا ما بعد انتصار الثورة". في كل الحالات، كان لاقتحام حي الأشرفية مفاعيل سلبية كثيرة على الرأي العام الكردي. "شعر الأكراد بالغبن والخيانة. ليس هكذا يكافأ مَن دفع إلى الآن 3500 شهيد في سبيل الثورة"، يشرح جكو الشعور الكردي بصيغة الـ"نحن".

الأكراد ومستقبل سوريا
ماذا بعد انتصار الثورة؟ كل الأجوبة تتمحور حول الحلّ الفدرالي المطلوب. هافال هو إبن البيئة الحلبية المختلطة قومياً. العامل الرئيسي لتحرّك الشعور القومي لديه كان التمييز الذي خبره في الجيش كمجنّد. الآن، يرى هافال أن "الحد الأدنى المقبول وهو أيضاً الحلّ الوحيد يتمثّل بالفدرالية". وإذا رفض العرب هذا المطلب؟ "رفض العرب لهذا المطلب الكردي سيؤدي إلى توتر العلاقات بينهم وبين الأكراد وربما إلى صدام مسلّح. أنا مع تحقيق الحق الكردي حتى لو بمساعدة الشيطان"، يجيب جكو بصراحة إلى حقيقة يحاول البعض الدوران حولها.
المستقبل ضبابي يؤكد كادار. ولكن لم تعد ممكنة العودة الى الوراء. الحكم الذاتي الكردي صار أمراً واقعاً. حققه الـ"ب.ي.د". إذن لماذا يعارض سياساته؟ يقول كادار ان سياسته كانت لتولد آثاراً شديدة السلبية لو حسم نظام البعث المعارك الميدانية في سوريا لصالحه، أي لو أن النظام أجهض الثورة.
تسير الثورة السورية ويسير معها أمل الأكراد الممزوج بريبة يولّدها واقعهم كأقلية في سوريا. "لو شارك الأكراد عسكرياً في الثورة لكانوا قالوا أن الأكراد يتحركون لأنهم يريدون الإنفصال"، يقول جكو مشيراً إلى النيات السيئة المبيّتة تجاه الأكراد.
ولكن الأكراد لم ييأسوا من تحقيق إنجاز الثورة ديمقراطية سورية. "الأمل كبير بالشباب السوري الثائر الذي ينادي بالديمقراطية"، يقول هافال.

(نشرتها على موقع ناوليبانون في 16 تشرين الثاني 2012)

ذكريات... من جهنّم السجون السورية

وصف السجون السورية بجهنّم ليس فقط وصفاً أطلقه المساجين الذين قدّر لهم العودة إلى الحرية والكتابة عن تجربتهم. هذا الوصف سمعوه أيضاً من سجّانيهم: "أنتم في جهنّم". تتعدّد أسباب رواية المعتقلين في السجون لتجربتهم. لعلّ هذا النوع من الكتابات، أساساً، وسيلة لاستعادة الحق بالنطق بعد طول حرمان، "روداج" يعيد تأهيل "المركبات البشرية" للسير في شوارع الحرية وأزقتها. في كتاب علي أبو دهن الصادر مؤخراً تحت عنوان "عائد من جهنّم/ ذكريات من تدمر وأخواته" والصادر عن "دار الجديد" و"أمم للتوثيق والأبحاث" و"جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية"، سننتظر حتى الصفحة 109 لنقرأ دوافع أبو دهن إلى الكتابة. لطالما حادث علي نفسه وقال إنه "إذا كتبت لي الحياة سأكتب مذكراتي وأنشرها ليعرف العالم بأسره الحضارة والأخوة التي مارسها نظام البعث".

الاعتقال "المزاجي"

لم يعرف أبو دهن أن باب جهنّم يمكن ولوجه من طريق زيارة أقاربه في السويداء ولم يعرف أن حلمه بأوستراليا الواسعة التي ذهب إلى مقر سفارتها في دمشق طلباً للهجرة يمكن أن يقوده إلى أقبية السجون. في السويداء قال الشرطي لزوجته: "ساعة بيشرب فنجان قهوة عندنا وبرجّعلك ياه". الساعة مُطّت وتكاثرت حتى صارت ساعات فشهور فأكثر من 12 سنة. مذ أن انتقل علي من فرع السويداء خسر هويته الإنسانية وتحوّل إلى رقم في فرع المنطقة (المسلخ) ففي فرع فلسطين ففي فرع التحقيق العسكري ففي سجن تدمر وصولاً إلى سجن صيدنايا.
12 سنة وثلاثة أشهر أو 147 شهراً أو 4474 يوماً وليلة قضاها المعتقل اللبناني السابق في السجون السورية قبل أن يزفّ إليه خبر قرار سجانيه بالإفراج عنه، من ضمن المفرج عنهم عام 2000.
طوال هذه الفترة لم يواجه أبو دهن باتهامات واضحة. في فرع المسلخ لم ينكر أبو دهن التهم التي وجهت إليه، فهناك لم توجّه إليه أيّة تهمة. كان المحققون يدفعونه إلى الإعتراف بذنب ارتكبه دون مواجهته بأيّة معطيات. "حطوه في الكرسي" كان ردّ المحقق الذي ملّ من قصور خيال أبو دهن عن ابتكار جريمة ينسبها لنفسه فتعرّف علي على وسيلة التعذيب الجهنمية المعروفة باسم الكرسي النازي ثم خبر بجسده ضربات "الكابل الرباعي" (كابل كهربائي بأربعة أطراف) وتعرّضت أجزاء جسده، حتى الحميمية منها لـ"الكهربا". سلسلة من العذابات انتهت بتلبيس أبو دهن تهمة التعامل مع "جيش لبنان الجنوبي".
في فرع فلسطين توهّم أبو دهن الحقّ بإنكار اعترافاته السابقة وبالتصريح بأنها كانت نتيجة التعذيب. "رح اتركلك شي 15 يوم حتى ترتاح، بس تحس إنك لازم تحكي اطلبني. خذوه!"، قال المحقق الذي أبى أن يوصم بقلة الحيل مقارنة بسابقيه. 15 يوم في السجن الانفرادي كانت كافية لإعادة علي إلى الواقع وإلى حثّه على تسليم مصيره للقدر.
فيما بعد صار أبو دهن ذو باع في معرفة كيف تكون الاعترافات أمام المحققين السوريين. أثناء نقله مع مجموعة من المساجين إلى سجن تدمر تعرّف علي على "ستة عشر معتقلاً، باع أولهم سلاحه الحربي من طراز كلاشينكوف إلى الثاني... وهكذا دواليك وصولاً إلى المعتقل السادس عشر... الذي قتل جاره بالسلاح، فقبض على الجميع... حوكموا بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات، في حين نال الأخير حكماً بالاعدام".
كان علي يُنقل من سجن إلى آخر وملفّه ينتقل من شكل إلى آخر. لم يعرف بعض ما جاء فيه إلا عندما أطلق سراحه. أخبره المحقق اللبناني أنه التقى بأرييل شارون وأن طائرة مروحية كانت تنقله من قريته الجنوبية حاصبيا إلى داخل اسرائيل... عرف علي أنه كان خطيراً!
في الحقيقة اشترك علي في الحرب اللبنانية ضد الوجود السوري في المنطقة الشرقية تحت قيادة الباش مارون خوري قائد "حركة الشبيبة اللبنانية" من 1975 حتى 1980. كان الاعتراف بأيّ نوع من التعامل مع أيّ كان أسهل من القول إنه اطلق النار على الجنود السوريين... وإلا فالإعدام.

أمكنة تخلّى الله عنها!
في فرع المسلخ قال الضابط للرقم 6: "الله لا يدخل هنا وإلا لما وجدتني أمامك. هنا فقط للاستخبارات". فهم علي الرسالة. وفي خطاب إستقباله ومجموعة أخرى في تدمر قال لهم المستقبل: "هنا جهنّم الحمراء كما تسمونها في أديانكم... لا تنتظروا الرحمة والرأفة منا ولا من الله لأنه لا يدخل إلى تدمر". لم يكن ينقصهم سوى إبلاغ الخطيب إيّاهم أنه "إذا استحلى شي عسكري واحد منكم مسموح له يني...ه"!
في السجون السورية يفقد الإنسان إنسانيته. يصير مستلباً كلياً أمام سجّانيه. في تدمر، "أخذت نفوسنا بالاضمحلال حتى الإنهيار ولن نعد نهتم للشتيمة والعنف" يصف علي أحوال المساجين. كيف لا وفي فترة "التنفّس"، أي تلك الدقائق التي يسمح لهم خلالها برؤية الشمس، يفرض عليهم أن يكونوا "عيونهم شبه مغلقة ويسمح لهم فقط برؤية الأرض وحذاء الرقيب". في أحد الحوارات القليلة التي يسجّلها أبو دهن في كتابه يضعنا أمام لوحة مأساوية تستحق أن تكون مشهداً في تراجيديا. "أجلسونا القرفصاء ثم سمعنا صوتاً مدوياً يقول: ـ مني...، إنت ولاه! ولك حيوان إنت...! كل واحد منا يظن أنه هو الحيوان المقصود".
احتمال السجن السوري يفترض التخلّي عن كثير من سمات الإنسانية. نَحَت المساجين (وهذا مذكور في شهادات معظمهم) مصطلح "الاستحباس". الاستحباس هو التعوّد على حياة السجن. هو في شكل ما طلاق مع الإنسانية تحث عليه غريزة البقاء! "الأقوى" في السجن، يخبرنا أبو دهن، "هو ذاك الذي استحبس داخل سجنه، فأطلق العنان لمصيره، لحياته أو موته، أو لعلّه يحصر تفكيره بالحالة الوسطى ما بين نبضة الحياة وشخرة الرحيل".
في "عائد من جهنّم" شهادة عن وفاة اللبناني حسن هوشر بسبب الإهمال ولبناني آخر من آل الرز بسبب تعذيبه رغم مرضه. رسمياً، سبب الموت الوحيد للوفاة في السجن هو "الوقوع في الحمام" ومن يجرؤ على إعطاء أي تفسير آخر مصيره التعذيب الشديد. ثم يأتيك أحد السجّانين ويقول لك: "ولاه نحن ما بنعذّب ولا بنضرب. شو مفكّرنا يهود". قمة السوريالية!

حين نصادق الجرذ
في السجن الإنفرادي في فرع فلسطين سرّ أبو دهن دخول جرذ من ثقب صغير في الجدار إلى زنزانته. تحايل عليه وأطعمه وأسعده الشعور بلسانه يمر على يده. الجرذ أشعر السجين أن في العالم حياة تستمر فنمت بينهما صداقة دامت أربعة أشهر كان يأتيه الجرذ ليشاركه طعامه القليل وانتهت بسد السجانين للثقب بعد حملة تفتيش للزنزانات.
لا وسائل للتسلية في السجن. هذا الواقع كان يحث مخيّلة المساجين على الابتكار. "أحياناً، كنت أحاول تذكر فيلم سينمائي، أتصور نفسي في دور البطولة، أعدّل السيناريو، فأدخل ممثلين جدداً أو أنهي حياة البطل كما أشاء، ثم أعيد إحياءه". وكان المساجين يخيطون، بالسرّ، على قطعة قماش ما يخولهم لعب الطاولة والشطرنج أو كان أحدهم يقصّ عليهم حلقات مسلسل كان قد شاهده. كانوا يبتكرون طرقاً للاستمرار "وكأن عدم الموت سأماً أو يأساً في السجون يشكل هزيمة لمن رمى بنا في ظلمة الحبس والقمع".
في زمان الاستحباس في السجون السورية، حتى الأحلام يتغيّر شكلها وتستحبس. كان السجناء يتناقلون سرد الأحلام التي تراودهم لتقطيع الوقت. أحد المساجين روى لهم "أنه رأى يوماً عنترة بن شداد راكباً على حصانه يسلّ سيفه بيده... هارباً من الرقيب الذي لحقه ومعه كابل ليجل الآن الرقيب لم يعد يخيف. انكسر جدار الخوف. وبإنتظار انتهاء مأساة المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية...ترى كم من "علي أبو دهن" سيعود إلى "الحياة" وكم من شهادة ستكتب؟!".

(نشرتها على موقع ناوليبانون في 16 تشرين الثاني 2012)

الأحد، 28 أكتوبر 2012

دفاعاً عن إيهاب العزي


سيتفاجأ البعض من مقال يدافع عن إيهاب العزي، ذاك الشاب "الأزعر" الذي ادّعى أن ملتحين أوقفوه في محلّة الطريق الجديدة، وعلى وقع هتافات "الله اكبر"، ضربوه بالسيف وأفقدوه أصابع يده.

سيتفاجأ البعض من مقال يدافع عن شاب اختلق قصّة أقل ما يمكن قوله هو إنها إشاعة خبيثة تؤدي إلى زيادة في توتير علاقة بين طائفتين لبنانيتين، الشيعة والسنّة، علاقة متوتّرة أساساً وصارت تمتلك كل عناصر الإنفجار.

إذن لماذا هذا الدفاع؟!

إيهاب العزّي هو ضحيّة البيئة التي نشأ فيها وهو ضحيّة السبات الذي تعيش فيه الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية. نسبة كبيرة من الشباب اللبناني تشبه إيهاب العزي. لا يفترق إيهاب عن هؤلاء سوى بظروف معيّنة أحاطت به. كثير من الكلام تناول "خيالات" إيهاب، عندما كانت "حادثة" فقام البعض بـ"ركوبها" والتنديد بما حصل مع "الشاب البريء" لا لشيء سوى لإثبات وعي ووطنية لا يمتلكهما (فارس سعيد نموذجاً). وكثير من الكلام تناول "خيالات" إيهاب عندما صارت "أكذوبة" فقام البعض بـ"ركوبها" من جديد لإثبات تيقظه للدعاية الإعلامية التي يعمل إعلام 8 آذار على بثها (فارس سعيد نموذجاً/ الموقف الثاني لسعيد).

لم يتحدث أحد عن عناصر القصة التي اختلقها العزّي. هل ظنّوه روائياً؟! قصة إيهاب هي قصة وعي معظم الشباب اللبناني وكيفية رؤيته لـ"الآخر" الذي لا ينتمي إلى طائفته. كيف ذلك؟ لنحاول استخراج عناصر روايته:
أولاً، اللبناني "الآخر" الذي يسكن في منطقة "الآخرين" هو شخص متأهب للتربص بنا (ملتحو الطريق الجديدة المنتظرين مع سيوفهم).
ثانياً، هويتنا الطائفية مهددة و"الآخر" لا يحترم هذه الرموز فيا أبناء ملّتي اتحدوا (أحد الملتحين شد سلسالاً معلّق فيه مجسّم صغير لسيف الإمام علي بن أبي طالب ورماه ارضاً، وراح يدوسه هو والمسلحين الآخرين الذين كانوا على مقربة منه).
ثالثاً، أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية لا تحمينا والأمن لا يمكن أن يكون سوى أمن ذاتي (عناصر الجيش لم يتدخلوا رغم استنجاد إيهاب بهم).
رابعاً، الإدعاء بأننا لبنانيون ولسنا طائفيايين كالآخرين ولكن الآخرين يفرضون علينا أن نكون طائفيين (يقول العزي: "أوقفني عدد من المسلحين وسألوني عن طائفتي، فأجبت بأنني لبناني").
خامساً، الثأر ينهشنا ويدخلنا في دوامة من العنف لا تنتهي (نُقل عن إيهاب أنه يتوعّد بالبحث عن الشباب الذين اعتدوا عليه، وحين يجدهم سيقطع اصابعهم، تماماً كما فعلوا به".

هكذا نكتشف أن إيهاب العزي ليس لا روائياً ولا قاصاً. هو فقط شاب لبناني يمكن اعتبار عناصر وعيه نموذجاً يمكن تعميمه لينطبق على وعي معظم الشباب اللبناني. الكلّ صدّق رواية هذا الشاب "الأزعر" فهل في هذا التصديق شيء سوى قناعة كامنة لدينا بأن ما حصل ممكن حصوله. كون الواقعة مختلقة لا يشكّل ذلك الفارق الكبير. اكتشفنا زيف الرواية بالصدفة ولكننا صدقناها لأنها ممكنة الوقوع.

ماذا بعد؟

في معلومات خاصة، الشاب إيهاب العزّي هو أحد المشاركين في إشكال برج أبو حيدر الذي وقع منذ فترة من الزمن بين "الشيعة" و"الأحباش" ويُقال بأنه ممن أحرقوا جامعاً أثناء الإشكال المذكور. لماذا هو طليق إذاً؟ بسيطة. تمت تغطية "الزعران" آنذاك. لو كانت الأجهزة الأمنية قامت بما عليها لما كان إيهاب طليقاً ليستمر في "زعرناته".

رواية العزّي ما لبثت أن هيمنت على كل الأحداث الأخرى. هل سألتم عن السبب؟ لأنها من نوع الحوادث التي "تهيّج" اللبنانيين وتسمح لهم بكيل الاتهامات لأطراف سياسية يناصبونها "العداء". نسي كثير من الفسابكة نديم قطيش وصرخته الداعية للإخلال بالسلم الأهلي. بطل ساحة الشهداء يلبس الآن ربطة عنقه ويختبئ في مكان ما. نسي كثير من الفسابكة "عهر" البعض الذي ادّعى أن أهالي الضاحية يوزعون البقلاوة بمناسبة مقتل وسام الحسن. من يهدد السلم الأهلي أكثر؟

إيهاب العزّي ضحيّة. هذا لا يرفع عنه الذنب الذي ارتكبه. إيهاب العزّي ضحيّة. هذه ليست دعوة للتسامح معه ومع أمثاله بل هي دعوة للنظر أبعد قليلاً، للنظر إلى وسائل الإعلام التي نشرت "خدعته"، ولربما هي ألفتها ونسبتها إليه فضللته كما ضللت اللبنانيين. وهي، قبل أي شيء آخر، دعوة لمحاسبة صنّاع البيئات السياسية الطائفية. المحاسبة لا تبدأ من تحت.