وصف السجون السورية بجهنّم ليس فقط وصفاً أطلقه المساجين الذين قدّر لهم العودة إلى الحرية والكتابة عن تجربتهم. هذا الوصف سمعوه أيضاً من سجّانيهم: "أنتم في جهنّم". تتعدّد أسباب رواية المعتقلين في السجون لتجربتهم. لعلّ هذا النوع من الكتابات، أساساً، وسيلة لاستعادة الحق بالنطق بعد طول حرمان، "روداج" يعيد تأهيل "المركبات البشرية" للسير في شوارع الحرية وأزقتها. في كتاب علي أبو دهن الصادر مؤخراً تحت عنوان "عائد من جهنّم/ ذكريات من تدمر وأخواته" والصادر عن "دار الجديد" و"أمم للتوثيق والأبحاث" و"جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية"، سننتظر حتى الصفحة 109 لنقرأ دوافع أبو دهن إلى الكتابة. لطالما حادث علي نفسه وقال إنه "إذا كتبت لي الحياة سأكتب مذكراتي وأنشرها ليعرف العالم بأسره الحضارة والأخوة التي مارسها نظام البعث".
الاعتقال "المزاجي"
لم يعرف أبو دهن أن باب جهنّم يمكن ولوجه من طريق زيارة أقاربه في السويداء ولم يعرف أن حلمه بأوستراليا الواسعة التي ذهب إلى مقر سفارتها في دمشق طلباً للهجرة يمكن أن يقوده إلى أقبية السجون. في السويداء قال الشرطي لزوجته: "ساعة بيشرب فنجان قهوة عندنا وبرجّعلك ياه". الساعة مُطّت وتكاثرت حتى صارت ساعات فشهور فأكثر من 12 سنة. مذ أن انتقل علي من فرع السويداء خسر هويته الإنسانية وتحوّل إلى رقم في فرع المنطقة (المسلخ) ففي فرع فلسطين ففي فرع التحقيق العسكري ففي سجن تدمر وصولاً إلى سجن صيدنايا.
12 سنة وثلاثة أشهر أو 147 شهراً أو 4474 يوماً وليلة قضاها المعتقل اللبناني السابق في السجون السورية قبل أن يزفّ إليه خبر قرار سجانيه بالإفراج عنه، من ضمن المفرج عنهم عام 2000.
طوال هذه الفترة لم يواجه أبو دهن باتهامات واضحة. في فرع المسلخ لم ينكر أبو دهن التهم التي وجهت إليه، فهناك لم توجّه إليه أيّة تهمة. كان المحققون يدفعونه إلى الإعتراف بذنب ارتكبه دون مواجهته بأيّة معطيات. "حطوه في الكرسي" كان ردّ المحقق الذي ملّ من قصور خيال أبو دهن عن ابتكار جريمة ينسبها لنفسه فتعرّف علي على وسيلة التعذيب الجهنمية المعروفة باسم الكرسي النازي ثم خبر بجسده ضربات "الكابل الرباعي" (كابل كهربائي بأربعة أطراف) وتعرّضت أجزاء جسده، حتى الحميمية منها لـ"الكهربا". سلسلة من العذابات انتهت بتلبيس أبو دهن تهمة التعامل مع "جيش لبنان الجنوبي".
في فرع فلسطين توهّم أبو دهن الحقّ بإنكار اعترافاته السابقة وبالتصريح بأنها كانت نتيجة التعذيب. "رح اتركلك شي 15 يوم حتى ترتاح، بس تحس إنك لازم تحكي اطلبني. خذوه!"، قال المحقق الذي أبى أن يوصم بقلة الحيل مقارنة بسابقيه. 15 يوم في السجن الانفرادي كانت كافية لإعادة علي إلى الواقع وإلى حثّه على تسليم مصيره للقدر.
فيما بعد صار أبو دهن ذو باع في معرفة كيف تكون الاعترافات أمام المحققين السوريين. أثناء نقله مع مجموعة من المساجين إلى سجن تدمر تعرّف علي على "ستة عشر معتقلاً، باع أولهم سلاحه الحربي من طراز كلاشينكوف إلى الثاني... وهكذا دواليك وصولاً إلى المعتقل السادس عشر... الذي قتل جاره بالسلاح، فقبض على الجميع... حوكموا بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات، في حين نال الأخير حكماً بالاعدام".
كان علي يُنقل من سجن إلى آخر وملفّه ينتقل من شكل إلى آخر. لم يعرف بعض ما جاء فيه إلا عندما أطلق سراحه. أخبره المحقق اللبناني أنه التقى بأرييل شارون وأن طائرة مروحية كانت تنقله من قريته الجنوبية حاصبيا إلى داخل اسرائيل... عرف علي أنه كان خطيراً!
في الحقيقة اشترك علي في الحرب اللبنانية ضد الوجود السوري في المنطقة الشرقية تحت قيادة الباش مارون خوري قائد "حركة الشبيبة اللبنانية" من 1975 حتى 1980. كان الاعتراف بأيّ نوع من التعامل مع أيّ كان أسهل من القول إنه اطلق النار على الجنود السوريين... وإلا فالإعدام.
أمكنة تخلّى الله عنها!
في فرع المسلخ قال الضابط للرقم 6: "الله لا يدخل هنا وإلا لما وجدتني أمامك. هنا فقط للاستخبارات". فهم علي الرسالة. وفي خطاب إستقباله ومجموعة أخرى في تدمر قال لهم المستقبل: "هنا جهنّم الحمراء كما تسمونها في أديانكم... لا تنتظروا الرحمة والرأفة منا ولا من الله لأنه لا يدخل إلى تدمر". لم يكن ينقصهم سوى إبلاغ الخطيب إيّاهم أنه "إذا استحلى شي عسكري واحد منكم مسموح له يني...ه"!
في السجون السورية يفقد الإنسان إنسانيته. يصير مستلباً كلياً أمام سجّانيه. في تدمر، "أخذت نفوسنا بالاضمحلال حتى الإنهيار ولن نعد نهتم للشتيمة والعنف" يصف علي أحوال المساجين. كيف لا وفي فترة "التنفّس"، أي تلك الدقائق التي يسمح لهم خلالها برؤية الشمس، يفرض عليهم أن يكونوا "عيونهم شبه مغلقة ويسمح لهم فقط برؤية الأرض وحذاء الرقيب". في أحد الحوارات القليلة التي يسجّلها أبو دهن في كتابه يضعنا أمام لوحة مأساوية تستحق أن تكون مشهداً في تراجيديا. "أجلسونا القرفصاء ثم سمعنا صوتاً مدوياً يقول: ـ مني...، إنت ولاه! ولك حيوان إنت...! كل واحد منا يظن أنه هو الحيوان المقصود".
احتمال السجن السوري يفترض التخلّي عن كثير من سمات الإنسانية. نَحَت المساجين (وهذا مذكور في شهادات معظمهم) مصطلح "الاستحباس". الاستحباس هو التعوّد على حياة السجن. هو في شكل ما طلاق مع الإنسانية تحث عليه غريزة البقاء! "الأقوى" في السجن، يخبرنا أبو دهن، "هو ذاك الذي استحبس داخل سجنه، فأطلق العنان لمصيره، لحياته أو موته، أو لعلّه يحصر تفكيره بالحالة الوسطى ما بين نبضة الحياة وشخرة الرحيل".
في "عائد من جهنّم" شهادة عن وفاة اللبناني حسن هوشر بسبب الإهمال ولبناني آخر من آل الرز بسبب تعذيبه رغم مرضه. رسمياً، سبب الموت الوحيد للوفاة في السجن هو "الوقوع في الحمام" ومن يجرؤ على إعطاء أي تفسير آخر مصيره التعذيب الشديد. ثم يأتيك أحد السجّانين ويقول لك: "ولاه نحن ما بنعذّب ولا بنضرب. شو مفكّرنا يهود". قمة السوريالية!
حين نصادق الجرذ
في السجن الإنفرادي في فرع فلسطين سرّ أبو دهن دخول جرذ من ثقب صغير في الجدار إلى زنزانته. تحايل عليه وأطعمه وأسعده الشعور بلسانه يمر على يده. الجرذ أشعر السجين أن في العالم حياة تستمر فنمت بينهما صداقة دامت أربعة أشهر كان يأتيه الجرذ ليشاركه طعامه القليل وانتهت بسد السجانين للثقب بعد حملة تفتيش للزنزانات.
لا وسائل للتسلية في السجن. هذا الواقع كان يحث مخيّلة المساجين على الابتكار. "أحياناً، كنت أحاول تذكر فيلم سينمائي، أتصور نفسي في دور البطولة، أعدّل السيناريو، فأدخل ممثلين جدداً أو أنهي حياة البطل كما أشاء، ثم أعيد إحياءه". وكان المساجين يخيطون، بالسرّ، على قطعة قماش ما يخولهم لعب الطاولة والشطرنج أو كان أحدهم يقصّ عليهم حلقات مسلسل كان قد شاهده. كانوا يبتكرون طرقاً للاستمرار "وكأن عدم الموت سأماً أو يأساً في السجون يشكل هزيمة لمن رمى بنا في ظلمة الحبس والقمع".
في زمان الاستحباس في السجون السورية، حتى الأحلام يتغيّر شكلها وتستحبس. كان السجناء يتناقلون سرد الأحلام التي تراودهم لتقطيع الوقت. أحد المساجين روى لهم "أنه رأى يوماً عنترة بن شداد راكباً على حصانه يسلّ سيفه بيده... هارباً من الرقيب الذي لحقه ومعه كابل ليجل الآن الرقيب لم يعد يخيف. انكسر جدار الخوف. وبإنتظار انتهاء مأساة المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية...ترى كم من "علي أبو دهن" سيعود إلى "الحياة" وكم من شهادة ستكتب؟!".
(نشرتها على موقع ناوليبانون في 16 تشرين الثاني 2012)
الاعتقال "المزاجي"
لم يعرف أبو دهن أن باب جهنّم يمكن ولوجه من طريق زيارة أقاربه في السويداء ولم يعرف أن حلمه بأوستراليا الواسعة التي ذهب إلى مقر سفارتها في دمشق طلباً للهجرة يمكن أن يقوده إلى أقبية السجون. في السويداء قال الشرطي لزوجته: "ساعة بيشرب فنجان قهوة عندنا وبرجّعلك ياه". الساعة مُطّت وتكاثرت حتى صارت ساعات فشهور فأكثر من 12 سنة. مذ أن انتقل علي من فرع السويداء خسر هويته الإنسانية وتحوّل إلى رقم في فرع المنطقة (المسلخ) ففي فرع فلسطين ففي فرع التحقيق العسكري ففي سجن تدمر وصولاً إلى سجن صيدنايا.
12 سنة وثلاثة أشهر أو 147 شهراً أو 4474 يوماً وليلة قضاها المعتقل اللبناني السابق في السجون السورية قبل أن يزفّ إليه خبر قرار سجانيه بالإفراج عنه، من ضمن المفرج عنهم عام 2000.
طوال هذه الفترة لم يواجه أبو دهن باتهامات واضحة. في فرع المسلخ لم ينكر أبو دهن التهم التي وجهت إليه، فهناك لم توجّه إليه أيّة تهمة. كان المحققون يدفعونه إلى الإعتراف بذنب ارتكبه دون مواجهته بأيّة معطيات. "حطوه في الكرسي" كان ردّ المحقق الذي ملّ من قصور خيال أبو دهن عن ابتكار جريمة ينسبها لنفسه فتعرّف علي على وسيلة التعذيب الجهنمية المعروفة باسم الكرسي النازي ثم خبر بجسده ضربات "الكابل الرباعي" (كابل كهربائي بأربعة أطراف) وتعرّضت أجزاء جسده، حتى الحميمية منها لـ"الكهربا". سلسلة من العذابات انتهت بتلبيس أبو دهن تهمة التعامل مع "جيش لبنان الجنوبي".
في فرع فلسطين توهّم أبو دهن الحقّ بإنكار اعترافاته السابقة وبالتصريح بأنها كانت نتيجة التعذيب. "رح اتركلك شي 15 يوم حتى ترتاح، بس تحس إنك لازم تحكي اطلبني. خذوه!"، قال المحقق الذي أبى أن يوصم بقلة الحيل مقارنة بسابقيه. 15 يوم في السجن الانفرادي كانت كافية لإعادة علي إلى الواقع وإلى حثّه على تسليم مصيره للقدر.
فيما بعد صار أبو دهن ذو باع في معرفة كيف تكون الاعترافات أمام المحققين السوريين. أثناء نقله مع مجموعة من المساجين إلى سجن تدمر تعرّف علي على "ستة عشر معتقلاً، باع أولهم سلاحه الحربي من طراز كلاشينكوف إلى الثاني... وهكذا دواليك وصولاً إلى المعتقل السادس عشر... الذي قتل جاره بالسلاح، فقبض على الجميع... حوكموا بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات، في حين نال الأخير حكماً بالاعدام".
كان علي يُنقل من سجن إلى آخر وملفّه ينتقل من شكل إلى آخر. لم يعرف بعض ما جاء فيه إلا عندما أطلق سراحه. أخبره المحقق اللبناني أنه التقى بأرييل شارون وأن طائرة مروحية كانت تنقله من قريته الجنوبية حاصبيا إلى داخل اسرائيل... عرف علي أنه كان خطيراً!
في الحقيقة اشترك علي في الحرب اللبنانية ضد الوجود السوري في المنطقة الشرقية تحت قيادة الباش مارون خوري قائد "حركة الشبيبة اللبنانية" من 1975 حتى 1980. كان الاعتراف بأيّ نوع من التعامل مع أيّ كان أسهل من القول إنه اطلق النار على الجنود السوريين... وإلا فالإعدام.
أمكنة تخلّى الله عنها!
في فرع المسلخ قال الضابط للرقم 6: "الله لا يدخل هنا وإلا لما وجدتني أمامك. هنا فقط للاستخبارات". فهم علي الرسالة. وفي خطاب إستقباله ومجموعة أخرى في تدمر قال لهم المستقبل: "هنا جهنّم الحمراء كما تسمونها في أديانكم... لا تنتظروا الرحمة والرأفة منا ولا من الله لأنه لا يدخل إلى تدمر". لم يكن ينقصهم سوى إبلاغ الخطيب إيّاهم أنه "إذا استحلى شي عسكري واحد منكم مسموح له يني...ه"!
في السجون السورية يفقد الإنسان إنسانيته. يصير مستلباً كلياً أمام سجّانيه. في تدمر، "أخذت نفوسنا بالاضمحلال حتى الإنهيار ولن نعد نهتم للشتيمة والعنف" يصف علي أحوال المساجين. كيف لا وفي فترة "التنفّس"، أي تلك الدقائق التي يسمح لهم خلالها برؤية الشمس، يفرض عليهم أن يكونوا "عيونهم شبه مغلقة ويسمح لهم فقط برؤية الأرض وحذاء الرقيب". في أحد الحوارات القليلة التي يسجّلها أبو دهن في كتابه يضعنا أمام لوحة مأساوية تستحق أن تكون مشهداً في تراجيديا. "أجلسونا القرفصاء ثم سمعنا صوتاً مدوياً يقول: ـ مني...، إنت ولاه! ولك حيوان إنت...! كل واحد منا يظن أنه هو الحيوان المقصود".
احتمال السجن السوري يفترض التخلّي عن كثير من سمات الإنسانية. نَحَت المساجين (وهذا مذكور في شهادات معظمهم) مصطلح "الاستحباس". الاستحباس هو التعوّد على حياة السجن. هو في شكل ما طلاق مع الإنسانية تحث عليه غريزة البقاء! "الأقوى" في السجن، يخبرنا أبو دهن، "هو ذاك الذي استحبس داخل سجنه، فأطلق العنان لمصيره، لحياته أو موته، أو لعلّه يحصر تفكيره بالحالة الوسطى ما بين نبضة الحياة وشخرة الرحيل".
في "عائد من جهنّم" شهادة عن وفاة اللبناني حسن هوشر بسبب الإهمال ولبناني آخر من آل الرز بسبب تعذيبه رغم مرضه. رسمياً، سبب الموت الوحيد للوفاة في السجن هو "الوقوع في الحمام" ومن يجرؤ على إعطاء أي تفسير آخر مصيره التعذيب الشديد. ثم يأتيك أحد السجّانين ويقول لك: "ولاه نحن ما بنعذّب ولا بنضرب. شو مفكّرنا يهود". قمة السوريالية!
حين نصادق الجرذ
في السجن الإنفرادي في فرع فلسطين سرّ أبو دهن دخول جرذ من ثقب صغير في الجدار إلى زنزانته. تحايل عليه وأطعمه وأسعده الشعور بلسانه يمر على يده. الجرذ أشعر السجين أن في العالم حياة تستمر فنمت بينهما صداقة دامت أربعة أشهر كان يأتيه الجرذ ليشاركه طعامه القليل وانتهت بسد السجانين للثقب بعد حملة تفتيش للزنزانات.
لا وسائل للتسلية في السجن. هذا الواقع كان يحث مخيّلة المساجين على الابتكار. "أحياناً، كنت أحاول تذكر فيلم سينمائي، أتصور نفسي في دور البطولة، أعدّل السيناريو، فأدخل ممثلين جدداً أو أنهي حياة البطل كما أشاء، ثم أعيد إحياءه". وكان المساجين يخيطون، بالسرّ، على قطعة قماش ما يخولهم لعب الطاولة والشطرنج أو كان أحدهم يقصّ عليهم حلقات مسلسل كان قد شاهده. كانوا يبتكرون طرقاً للاستمرار "وكأن عدم الموت سأماً أو يأساً في السجون يشكل هزيمة لمن رمى بنا في ظلمة الحبس والقمع".
في زمان الاستحباس في السجون السورية، حتى الأحلام يتغيّر شكلها وتستحبس. كان السجناء يتناقلون سرد الأحلام التي تراودهم لتقطيع الوقت. أحد المساجين روى لهم "أنه رأى يوماً عنترة بن شداد راكباً على حصانه يسلّ سيفه بيده... هارباً من الرقيب الذي لحقه ومعه كابل ليجل الآن الرقيب لم يعد يخيف. انكسر جدار الخوف. وبإنتظار انتهاء مأساة المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية...ترى كم من "علي أبو دهن" سيعود إلى "الحياة" وكم من شهادة ستكتب؟!".
(نشرتها على موقع ناوليبانون في 16 تشرين الثاني 2012)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق