صورة المدونة

صورة المدونة

الأحد، 16 سبتمبر 2012

مأزق "السياسات الكبرى"


عندما أطلّ علينا خبر هجوم بعض الليبيين المسلّح على مقر القنصلية الأميركية في بنغازي احتجاجاً على الفيلم البذيء المسيء للنبي محمد وعندما نُقلت إلينا الصورة المؤثرة لجثة السفير الأميركي في ليبيا كريس ستيفنز، خرج من يُخبرنا عن أقلية عنيفة أو عن "هجوم مخطّط له"، على ما قال قائد وحدة العمليات الخاصة التي حاولت حماية دبلوماسيي السفارة، النقيب فتحي العبيدي.

قبلها، وعندما بدأت أحداث "الربيع العربي"، غنّى كثر موّال اسقاط المواطنين العرب للشعارات القومية الكبرى التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، واستيقاظهم على الاهتمام  بشؤون حياتهم اليومية والتفاتهم إلى قضايا أكثر جدوى كالمطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة، بدل التهامهم شعارات الأنظمة التسلطية الدسمة التي ما كانت تهدف إلا إلى السيطرة على حياة المواطنين ونهب ثروات بلادهم.

الآن، علينا أن نبدأ بفهم طبيعة عالمنا العربي وبإعادة الاعتبار لوقائع تم إغفالها في التحليلات ـ التمنّيات الكثيرة التي استهلكت كمية كبيرة من الحبر والورق. والفهم ضروري إذا ما أردنا التأثير إيجاباً في محيطنا والتأسيس لمستقبل أفضل.

ليست هذه المراجعة التي أقدمها في هذه العجالة، ولا بأي شكل من الأشكال، محاولة لمساواة واقع ما قبل الانتفاضات العربية بواقع ما بعد هذه الانتفاضات. فأنا من مؤيدي تغيير الأنظمة التسلطية، بغض النظر عن البديل الذي سيخلفها، من سوريا حتى البحرين ووصولاً إلى إيران وإلى السعودية. إنما القصد العودة إلى فهم الواقع لأننا نريد التأسيس لمستقبلنا حيث نحن ولن نستطيع الرحيل إلى كوكب آخر (هكذا قال وزير خارجية البحرين للمعارضين هناك!).

هناك موضوعين أساسيين سيبقيان في أولويات السياسات العربية في العقد القادم. الأول هو العلاقة مع اسرائيل والثاني هو العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. وفي كثير من الأحيان سيعود استخدام هذين الموضوعين والشعارات الكبرى الخارجة من رحمهما لوأد الحرية والديمقراطية ولانتهاك الكرامة الإنسانية للمواطنين وإن حصل اختلاف في شكل القمع.

بالنسبة للموضوع الأول، لن تستطيع أيّة قوّة سياسية عربية في أيّة دولة عربية اعتماد سياسة مهادنة مع اسرائيل للتفرغ لبناء مقدرات شعب هذه الدولة وتطوير الديمقراطية في نظامها السياسي. هذا على افتراض اهتمام القوى السياسية بشعوب دولها وبدمقرطة الحياة السياسية. السبب في ذلك يكمن في أن معارضيها سيجدون موقعاً هاماً للتصويب عليها من أجل مزاحمتها شعبياً وهو موقع المزايدة في العداء لإسرائيل. هذا الهجوم من المعارضين سيدفع هذه القوة السياسية إلى مزايدة مضادة على خصومها لسحب فتيل هجومهم. والنتيجة: سنعود إلى سماع الرندوحة التي تقول بأن الحياة مؤجلة بسبب اسرائيل! فبين رفض زعيم حزب الأمة الإسلامي السوداني حسن الترابي انقلاب الإسلاميين على المعاهدات القائمة مستشهدا بآية من القران الكريم "أتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّته" (كلام قاله في ندوة "الاسلاميين والثورات العربية" في الدوحة في 13 أيلول الجاري) وبين اعتبار زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي أيمن الظواهري أن الإطاحة بالرئيس بشار الأسد ستقرب المسلمين من هدفهم النهائي، وهو هزيمة إسرائيل (في شريط صوتي وضع على الإنترنت في 13 أيلول الجاري) وبين شعارات معارضات ناصرية وقومية ويسارية لن نلبث أن نرى أنفسنا من جديد أمام معادلة "الحياة مؤجلة بسبب اسرائيل".

بالنسبة للموضوع الثاني، أي العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، لن تلبث الجماهير العربية أن تعود إلى إلقاء كل أوزار تقصيرنا عن مواكبة العصر إلى هذه الدولة وإلى غيرها من الدول الغربية. بعد التدخل الاميركي العسكري في العراق تفاجأ الأميركيون بأن العراقيين لم يقابلوهم بالورود. بعد تحرير ليبيا من الطاغية القذافي تفاجأت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، عقب المأساة التي حصلت في بنغازي، من غياب الزهور (علقت كلينتون على مقتل السفير الأميركي بالقول: "كيف يمكن ان يحدث هذا؟ كيف يمكن ان يحدث هذا في بلد ساعدنا على تحريره، وفي مدينة ساعدنا على إنقاذها من التدمير؟")، وفي مصر شاهدت الولايات المتحدة الأميركية علم تنظيم القاعدة الإرهابي يعلو مبنى سفارتها في القاهرة... في ذكرى 11 أيلول ثم اليمن وتونس والسودان... ماذا يحصل؟ يتساءل الأميركيون. ما يحصل هو أن علاقة الشعوب العربية بالولايات المتحدة علاقة شديدة التعقيد ولن تخفف من تعقيداتها مساعدة أميركية هنا وموقف أميركي هناك. منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي والمواطن العربي يسمع خطاباً يلقي على الولايات المتحدة وزر بؤسة لا بل ووزر بؤس العالم كلّه. نقد الولايات المتحدة صار في اللاوعي العربي ويصعب علاجه. كل ما لا نفهمه نقول عنه أنه مؤامرة أميركية. اتهام أميركا هو، في جزء كبير منه، تعويض عن قلة حيلتنا في التحليل المنطقي. نقول مؤامرة ونقطة على السطر! أعلام تنظيم القاعدة على مبنى السفارة الأميركية في القاهرة أرعبت الرئيس المصري محمد مرسي مبادر إلى القول أن نبيّنا"نفديه كلنا بكل ارواحنا ومهجات قلوبنا". اليوم موقف مرسي "ممنوع من الصرف" أما إذا ما قوي خصومه فسيجد نفسه مجبراً على المزايدة عليهم. لا يعني كل ما قلته أنه لا تقع على الولايات المتحدة مهمات كثيرة إذا ما أرادت بناء علاقة جيدة مع الشعوب العربية وعلى رأس هذه المهمات الضغط على إسرائيل من أجل التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية وحثها على الإنسحاب من الأراضي اللبنانية والسورية التي تحتلّها ولجم عدوانيتها تجاه محيطها، وبعدها الاعتذار عن سياسات عهود أميركية سابقة أيّدت الديكتاتوريات في عالمنا (لم تعتذر الكنيسة الكاثوليكية عن قرارات كنسية قديمة ولا تعتذر الولايات المتحدة؟!). ومع كلّ هذا، إذا ما حصل، ستكون عملية بناء الثقة عملية بطيئة. الحلّ ليس بإرسال حفنة من المارينز بعد الإعتداء على السفارات. هذه مفاقمة للمشكلة ليس أكثر. هذه عودة إلى التخاطب مع الأنظمة والجيوش بدل الشعوب.

ماذا يحصل؟ أميركا هي الغرب والغرب هو سبب مآسي الشرق. هكذا هو الوعي العامي للمسائل، وعي يتأسس على نسبة من الحقيقة وأضعافها من الإسقاطات. فما دخل المانيا وبريطانيا بفيلم أميركي ليعتدي على سفارتيهما السودانيون وأساساً ما دخل الولايات المتحدة نفسها بالفيلم البذيء وإن صنع على أرضها؟! هل نريد كثير إيضاح لنتبيّن أن المسألة هي مسألة تفريغ غضب وكره كامنين؟ شعار الحرية لا يمكن أن يتغلّب على شعار الهوية. على الغرب وعي دقة وحساسية هذه المسألة وألا يرتجلوا سياسات غبيّة.

من الصعب تأسيس سياسات عربية خارج الشعارات الكبرى المتمثلة بالعلاقة مع اسرائيل وبالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. هذه الشعارات وصفات جاهزة ولا تحتاج لا إلى تعليلات ولا إلى تبريرات والجمهور العربي اعتاد عليها ما يسهّل مهمة الحكام.

ليست هناك تعليقات :