"سنة بعد سنة، كنت حريصاً على تلبية هذه الدعوة، ظناً مني، بل معاندة، أن المشاركة في هذا الاحتفال إنما هي تأكيد لمطلب الإستقلال، مع أن هذا المطلب كان يبدو، سنة بعد سنة، أبعد وأبعد عن واقع الحال أو السعي. لكن ما أراني مضطراً إلى رؤيته اليوم، وبعد كل هذه السنوات، أن الاسترسال في هذا الأمر، من دون وقفة واضحة أمام ما آل إليه هذا الاستقلال بالفعل، يبدو كأنه تسليم بأن استقلال لبنان لا يعدو أن يكون تسمية بلا مسمى". هذا ما قاله الرئيس حسين الحسيني في رسالة أعلن فيها اعتذاره عن عدم المشاركة في الاحتفال.
صرخة. منبّه. نداء ضمير... لنسمِّ كلام الحسيني كما نشاء. تسع وستون سنة مرّت على ذكرى الاستقلال ونحن لا نزال نتحدث عن بناء الدولة! ما الذي استقلّ يا ترى؟ لدينا استقلال وليس لدينا دولة. عندما نتحدث عن الاستقلال ننسى تأسيسه على فكرة الدولة. وعندما نتحدث عن الدولة ننسى تأسيسها على واقع المجتمع. لا أدري كيف لا تكون ثلاثية الاستقلال – الدولة – المجتمع مترابطة في اللغو السياسي "الوطني". لعلّ الإجابة تكمن، ولو جزئياً، في سيادة منطق إمرار الزمن وتقطيع الاستحقاقات "بالتي هي أحسن". ولكن إلى متى هذا التيه؟ حديث اللبنانيين في السياسة الوطنية يشبه إلى حد كبير الحديث الذي يدور في مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو". الدولة هي غودو المنتظر، وكل حديث في انتظارها لا يعدو أن يكون أكثر من ملء فراغ الانتظار. ما أصعب الانتظار!
ولم نتقومن!
يعيش اللبنانيون حالة انفصام في علاقتهم بالدولة. الدولة هي إنتاج حداثي بامتياز. هي متساوقة مع عملية "القومنة"، بحسب مصطلحات كمال يوسف الحاج، أحد الذين حاولوا وفشلوا في التأسيس الفلسفي لفكرة الوطن اللبناني. هكذا ظهرت الدولة في السياق الأوروبي. في العالم العربي تشكلت الدول الوطنية من دون ارتباط بفكرة تبلّر القوميات والتوق إلى العيش المشترك وإلى تنظيم المجتمعات القومية باستقلال نسبي عن الجيران.
تشكلت الدول الوطنية في العالم العربي ولم تتشكل الهويات الوطنية. في كلّ مواطن عربي نزاع بين 3 هويات أساسية: الهوية الوطنية والهوية ما دون الوطنية والهوية ما فوق الوطنية. تتخذ الهوية ما دون الوطنية شكل الهوية الطائفية في المجتمعات المتعددة، أو شكل الهوية العشائرية في المجتمعات المتجانسة طائفياً. وتتخذ الهوية ما فوق الوطنية شكل الهوية القومية الكبرى، عربية أكانت أم سورية أم هاشمية، وتتستر لدى آخرين برداء النموذج الحضاري الذي يجب الاقتداء به. كيف لإطار نتجاذبه من طرفيه أن يستطيع الصمود؟ لم تشهد أي دولة عربية استقراراً بلا استبداد وغلبة سافرة! لبنان لم يشهد غلبة (بالمعنى العربي) في تاريخه.
من ناحية أخرى، ليست بنية المجتمع اللبناني حداثية. يعيش اللبنانيون حياة ما قبل حداثية إلى حد بعيد (يومياتنا وتفاصيلها) في إطارات شكلها حداثي (دولة ومؤسسات). في مكان ما، علينا مواجهة هذا التحدي والكف عن التفاجؤ من تحدّي أسلوب حياة اللبنانيين ما قبل الحداثي للدولة. هذه مسألة طبيعية. هذا التعارض هو ما يفسّر خروج أشخاص وجماعات عن القانون، وهو ما يفسّر شلل مؤسسات الدولة وأمور أخرى كثيرة. القيم المختلفة للبيئات اللبنانية المحلية تختلف عن قيم دولة القانون والمؤسسات على المثال الغربي. الرداء (الدولة) غير متناسب مع مرتديه (المجتمع).
كل الأمم التي تشكلت ونجحت شعوبها في بناء دول حديثة ومستقرة، قامت بالتضاد مع عدوّ جار. اللبنانيون لم يتفقوا يوماً على عدوّ مشترك ليبنوا وحدتهم في مواجهته. أنشئت الدولة اللبنانية ونصّبت كل جماعة لبنانية جماعة أو جماعات أخرى أعداءً لها. أجل أعداء. لم يعد ينفع التواري. اللبنانيون أعداء بعضهم البعض. كل مَن حمل السلاح منهم، أدلجه إنطلاقاً من فكرة الحماية الذاتية، وكل مفاوضة على تسليم السلاح للدولة كانت ترتبط بفكرة الضمانات. فات الأوان على التوحد بالتضاد مع عدوّ جار. لكن الأوان لم يفت ولن يفوت على بناء وحدة لبنانية حول منظومة جذّابة تبزّ المنظومات الجماعاتية. لكي نبني أمة ولكي نبني وطناً، علينا الإبداع!
أمام هذه الانفصامات لا نزال نتحدث عن الدولة وبنائها بأفكار أقل ما يمكن أن توصف به هي الميوعة. لنقل إنها محاولات لإسقاط نماذج على مجتمعاتنا، لم يتعظ محاولوها من عشرات السنين من الفشل.
الدولة فكرة
الدولة هي فكرة. فقط فكرة. من هنا قابليتها السريعة للإنجراح. صحيح أن الدولة صارت في أذهاننا، مرتبطة بمجموعة مؤسسات، ما يغرينا بالظن أنها شيء صلب وقادر وما إلى ذلك. ولكن لا. الدولة فكرة ليّنة لا تشتدّ إلا بممارسة القمع ضد كل من يتحدّى نموذجها الحداثي ومنع أي جماعة من امتلاك ما يمكن أن يهدد وحدة الدولة وتكاملها. لم يحصل اشتداد كهذا في الحالة اللبنانية بسبب تعددية المجتمع أساساً وبسبب تشكّل الطوائف اجتماعياً قبل انضوائها تحت راية الدولة الجامعة.
منذ تشكلها، لم تقم الدولة اللبنانية بالعمل الدؤوب الذي كان عليها القيام به أولاً، على الصعيد الأمني لأداء وظيفة الحامي للأمن الشخصي التي لا تبزّها منظومات الحماية المحلية. لا بل بالعكس، في حقبات كثيرة دفعت الدولة المواطنين إلى بناء منظومات أمان للتعويض عن غياب الدولة، ما أدى إلى تفاقم مشكلة لا نزال نعيشها؛ ثانياً، على الصعيد الاقتصادي لربط الجماعات اللبنانية مصلحياً بمنظومة اقتصاد وطني يحقق لها نوعاً من الرفاهية التي لا تحققها البيئات المحلية. الانتماء إلى إطار هو فكرة مصلحية وكل ما عدا ذلك هو فلسفات مكمّلة. إذا فكّرنا في مشروع الليطاني وعقود مرت دون تنفيذه مثلاً، نعرف لماذا فكرة الدولة غير جذّابة!
لم يفتنا القطار. ولن يفوتنا. في عالمنا الراهن، سنبقى لعشرات السنوات منظوراً إلينا كشاغلي مساحة جغرافية هي خريطة لبنان. علينا تدبّر أمورنا على هذه المساحة. أجل هي عينها المساحة التي حددتها الاتفاقات الانكليزية الفرنسية (نقول سايكس بيكو اختصاراً). على هذه الأرض علينا بناء دولتنا. منذ فترة أسفت لكلام قيادي سياسي كبير استهزأ بشرعية حدود لبنان لتبرير سياسة ظرفية. كلام كهذا، إن دلّ على شيء، فعلى قصر نظر وعلى تغليب المصالح الآنية المتبدّلة على التفكير الاستراتيجي "الوجودي".
تحضرني ترّهات تعتبر أن الحديث عن بناء الدولة والوطن هو حديث متقادم في عصر العولمة و"المواطنة العالمية". ترّهات عمياء عن رؤية أبسط أمور الحياة، من مثل أن عبور حدود الدول يحتاج إلى تأشيرات، ومن مثل أن منظومات القوانين ليست موحّدة. لا شك في أن وظائف الدولة قد تراجعت في السنوات الثلاثين الأخيرة ولكن صفة "المواطنة العالمية" لا يكتسبها (لا يستحقها؟) مواطنو الدول الفاشلة. ومن لا يصدّق فليختبر بنفسه تقسيم مواطني العالم درجات في مطارات الدول الغربية.
فكرة الدولة اليوم لا تمتلك إمكان التحقق في الظروف الراهنة. نحن بحاجة إلى وقفة تأمل تبدأ بإعلان فشلنا وفشل كل من سبقنا، وافتتاح عملية إبداع شكل الفكرة التي نقبل بها جميعاً كلبنانيين. علينا إعمال عقولنا في التفكير في وظائف للدولة نرتضيها جميعاً. وعلينا ابتكار الشكل المنوط به أداء هذه الوظائف والسماح له، لمرّة واحدة وأخيرة، بالاستقلال عن الجماعات اللبنانية، وممارسة القمع على أيّ ردّة. بمعنى آخر، علينا التوصل إلى اتفاق حقيقي ناتج من اقتناع كل الجماعات اللبنانية بأن مصلحتها تحققها الدولة، لا إلى اتفاق تقطيع وقت على شاكلة وثيقة الوفاق الوطني، التي وقّعها الفريق المنتصر في الحرب وهو متيقن بأنه يستطيع انتهاكها، ووقّعها الفريق الخاسر في الحرب على أمل أن يخرج منها مارد يؤمّن له "حقوقه"، واتفاق الدوحة.
مواثيق ضد الدولة!
في السياسة اللبنانية يعلى من شأن الاتفاقات الجماعاتية على حساب الدستور الجامع. كثيرون يتحدثون عن تعديل اتفاق الطائف أو المحافظة عليه، ولا يتحدثون عن تعديل الدستور أو المحافظة عليه. هذا يحتاج إلى وقفة تأمل.
بعض المثقفين اللبنانيين حاول التأسيس على أهمية المواثيق في حياة الأمم. أعتقد أن جهودهم الكبيرة ذهبت هباءً منثوراً. فكرة الميثاق الوطني وأهميته لا تمسّ أحاسيس اللبنانيين الشيعة لأنهم لم يكونوا شريكاً في الميثاق وخصوصاً أن ما كان يسمّيه اللبنانيون "الاسلام السياسي" تفكك. لم يعد من معنى للتنازل عن مطلب الوحدة العربية ولا للتعهد بعدم الإندفاع غرباً. لم ينجح اللبنانيون في تأسيس أمة على فكرة الميثاق الوطني. الآن انتهت مدّة صلاحيته.
تبقى "وثيقة الوفاق الوطني" آخر المواثيق الوطنية اللبنانية. مذ اتفق اللبنانيون (معظمهم) على هذه الوثيقة، حتى اليوم، لم ينجحوا في تأسيس دولة ما بعد الحرب الأهلية المستقرة. ارتبطت فكرة إنهاء الحرب الأهلية في أذهان اللبنانيين بالاتفاق الدولي على إنهائها لا بروح اتفاق الطائف الذي أخرجه هذا التوافق الدولي. لم يكن الحس الشعبي مخطئاً.
تعدّل الدستور اللبناني عام 1991 استناداً إلى النصوص المتوافق عليها في اتفاق الطائف. تحددت علاقة جديدة بين السلطات الدستورية والطوائف اللبنانية. كل ما له علاقة بموقع الطوائف اللبنانية في الحكم اللبنانية تدستر. لا يبقى الشيء الكثير الأهمية في الاتفاق. حتى البند الذي اكتشفه البعض حديثاً والذي يتحدث عن حلّ الميليشيات لطالما تم تفسيره، وبتوافق وطني، على أساس أنه يستثني الميليشيات المقاومة. إن المواثيق الوطنية ليست مواويل ليعاد غناؤها كلما شئنا. الميثاق الوطني التأسيسي يفرض تأويله منذ اللحظة الأولى ولا يمكن إعادة تأويله بعد مرور الزمن إلا بميثاق جديد.
نعود إلى السؤال أعلاه: لماذا يتحدث السياسيون عن وثيقة الوفاق الوطني ولا يتحدثون عن دستور الدولة؟ مصطلح وثيقة الوفاق الوطني يحمل فكرة أن جماعات مختلفة جلست وقبلت به. مصطلح الدستور لا يحمل هذا المعنى، فهو يرتقي رمزياً إلى مرتبه الجامع وينفصل، رمزياً ومادياً، عن واضعيه. القوى السياسية اللبنانية ترفض التنازل الرمزي لمصلحة الدولة الجامعة. تريد تقليص الدولة إلى مستوى خريطة موضوعة على طاولة، كطاولات التشاور والحوار التي تعتدي على مؤسسات الدولة ورمزيتها الجامعة.
إن بناء دولة لبنانية تستحق الاحتفال بأعياد لاستقلالها أو استقلالاتها، ليس مسألة سهلة. إنها مسألة تحتاج إلى إبداع صيغة تستجيب لهواجس كل الطوائف والجماعات اللبنانية وتضمن عدالة مشاركتها في الدولة الجامعة.
ليس القصد من كلّ ما سبق تعقيد المسألة لإخراجها من التداول. بل هو كلام صريح في ذكرى تعني لي شخصياً الكثير، في لحظة ألم من الإعتراف بالانتماء إلى وهم! نستطيع تأكيد بديهيات أن لا دولة بلا حصر السلاح في أيدي سلطة مركزية وبلا إلغاء طائفية التوظيف وبلا سدّ مزاريب الفساد وبلا وضع آليات لحرمان الجماعات اللبنانية من ارتباطاتها السياسية ـ المالية مع الخارج. لكن الطريق إلى تحقيق هذه البديهيات الوطنية وبقية عناصر الصيغة تحتاج إلى إبداع.
(نشرتها في النهار، السبت 24 تشرين الثاني)
صرخة. منبّه. نداء ضمير... لنسمِّ كلام الحسيني كما نشاء. تسع وستون سنة مرّت على ذكرى الاستقلال ونحن لا نزال نتحدث عن بناء الدولة! ما الذي استقلّ يا ترى؟ لدينا استقلال وليس لدينا دولة. عندما نتحدث عن الاستقلال ننسى تأسيسه على فكرة الدولة. وعندما نتحدث عن الدولة ننسى تأسيسها على واقع المجتمع. لا أدري كيف لا تكون ثلاثية الاستقلال – الدولة – المجتمع مترابطة في اللغو السياسي "الوطني". لعلّ الإجابة تكمن، ولو جزئياً، في سيادة منطق إمرار الزمن وتقطيع الاستحقاقات "بالتي هي أحسن". ولكن إلى متى هذا التيه؟ حديث اللبنانيين في السياسة الوطنية يشبه إلى حد كبير الحديث الذي يدور في مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو". الدولة هي غودو المنتظر، وكل حديث في انتظارها لا يعدو أن يكون أكثر من ملء فراغ الانتظار. ما أصعب الانتظار!
ولم نتقومن!
يعيش اللبنانيون حالة انفصام في علاقتهم بالدولة. الدولة هي إنتاج حداثي بامتياز. هي متساوقة مع عملية "القومنة"، بحسب مصطلحات كمال يوسف الحاج، أحد الذين حاولوا وفشلوا في التأسيس الفلسفي لفكرة الوطن اللبناني. هكذا ظهرت الدولة في السياق الأوروبي. في العالم العربي تشكلت الدول الوطنية من دون ارتباط بفكرة تبلّر القوميات والتوق إلى العيش المشترك وإلى تنظيم المجتمعات القومية باستقلال نسبي عن الجيران.
تشكلت الدول الوطنية في العالم العربي ولم تتشكل الهويات الوطنية. في كلّ مواطن عربي نزاع بين 3 هويات أساسية: الهوية الوطنية والهوية ما دون الوطنية والهوية ما فوق الوطنية. تتخذ الهوية ما دون الوطنية شكل الهوية الطائفية في المجتمعات المتعددة، أو شكل الهوية العشائرية في المجتمعات المتجانسة طائفياً. وتتخذ الهوية ما فوق الوطنية شكل الهوية القومية الكبرى، عربية أكانت أم سورية أم هاشمية، وتتستر لدى آخرين برداء النموذج الحضاري الذي يجب الاقتداء به. كيف لإطار نتجاذبه من طرفيه أن يستطيع الصمود؟ لم تشهد أي دولة عربية استقراراً بلا استبداد وغلبة سافرة! لبنان لم يشهد غلبة (بالمعنى العربي) في تاريخه.
من ناحية أخرى، ليست بنية المجتمع اللبناني حداثية. يعيش اللبنانيون حياة ما قبل حداثية إلى حد بعيد (يومياتنا وتفاصيلها) في إطارات شكلها حداثي (دولة ومؤسسات). في مكان ما، علينا مواجهة هذا التحدي والكف عن التفاجؤ من تحدّي أسلوب حياة اللبنانيين ما قبل الحداثي للدولة. هذه مسألة طبيعية. هذا التعارض هو ما يفسّر خروج أشخاص وجماعات عن القانون، وهو ما يفسّر شلل مؤسسات الدولة وأمور أخرى كثيرة. القيم المختلفة للبيئات اللبنانية المحلية تختلف عن قيم دولة القانون والمؤسسات على المثال الغربي. الرداء (الدولة) غير متناسب مع مرتديه (المجتمع).
كل الأمم التي تشكلت ونجحت شعوبها في بناء دول حديثة ومستقرة، قامت بالتضاد مع عدوّ جار. اللبنانيون لم يتفقوا يوماً على عدوّ مشترك ليبنوا وحدتهم في مواجهته. أنشئت الدولة اللبنانية ونصّبت كل جماعة لبنانية جماعة أو جماعات أخرى أعداءً لها. أجل أعداء. لم يعد ينفع التواري. اللبنانيون أعداء بعضهم البعض. كل مَن حمل السلاح منهم، أدلجه إنطلاقاً من فكرة الحماية الذاتية، وكل مفاوضة على تسليم السلاح للدولة كانت ترتبط بفكرة الضمانات. فات الأوان على التوحد بالتضاد مع عدوّ جار. لكن الأوان لم يفت ولن يفوت على بناء وحدة لبنانية حول منظومة جذّابة تبزّ المنظومات الجماعاتية. لكي نبني أمة ولكي نبني وطناً، علينا الإبداع!
أمام هذه الانفصامات لا نزال نتحدث عن الدولة وبنائها بأفكار أقل ما يمكن أن توصف به هي الميوعة. لنقل إنها محاولات لإسقاط نماذج على مجتمعاتنا، لم يتعظ محاولوها من عشرات السنين من الفشل.
الدولة فكرة
الدولة هي فكرة. فقط فكرة. من هنا قابليتها السريعة للإنجراح. صحيح أن الدولة صارت في أذهاننا، مرتبطة بمجموعة مؤسسات، ما يغرينا بالظن أنها شيء صلب وقادر وما إلى ذلك. ولكن لا. الدولة فكرة ليّنة لا تشتدّ إلا بممارسة القمع ضد كل من يتحدّى نموذجها الحداثي ومنع أي جماعة من امتلاك ما يمكن أن يهدد وحدة الدولة وتكاملها. لم يحصل اشتداد كهذا في الحالة اللبنانية بسبب تعددية المجتمع أساساً وبسبب تشكّل الطوائف اجتماعياً قبل انضوائها تحت راية الدولة الجامعة.
منذ تشكلها، لم تقم الدولة اللبنانية بالعمل الدؤوب الذي كان عليها القيام به أولاً، على الصعيد الأمني لأداء وظيفة الحامي للأمن الشخصي التي لا تبزّها منظومات الحماية المحلية. لا بل بالعكس، في حقبات كثيرة دفعت الدولة المواطنين إلى بناء منظومات أمان للتعويض عن غياب الدولة، ما أدى إلى تفاقم مشكلة لا نزال نعيشها؛ ثانياً، على الصعيد الاقتصادي لربط الجماعات اللبنانية مصلحياً بمنظومة اقتصاد وطني يحقق لها نوعاً من الرفاهية التي لا تحققها البيئات المحلية. الانتماء إلى إطار هو فكرة مصلحية وكل ما عدا ذلك هو فلسفات مكمّلة. إذا فكّرنا في مشروع الليطاني وعقود مرت دون تنفيذه مثلاً، نعرف لماذا فكرة الدولة غير جذّابة!
لم يفتنا القطار. ولن يفوتنا. في عالمنا الراهن، سنبقى لعشرات السنوات منظوراً إلينا كشاغلي مساحة جغرافية هي خريطة لبنان. علينا تدبّر أمورنا على هذه المساحة. أجل هي عينها المساحة التي حددتها الاتفاقات الانكليزية الفرنسية (نقول سايكس بيكو اختصاراً). على هذه الأرض علينا بناء دولتنا. منذ فترة أسفت لكلام قيادي سياسي كبير استهزأ بشرعية حدود لبنان لتبرير سياسة ظرفية. كلام كهذا، إن دلّ على شيء، فعلى قصر نظر وعلى تغليب المصالح الآنية المتبدّلة على التفكير الاستراتيجي "الوجودي".
تحضرني ترّهات تعتبر أن الحديث عن بناء الدولة والوطن هو حديث متقادم في عصر العولمة و"المواطنة العالمية". ترّهات عمياء عن رؤية أبسط أمور الحياة، من مثل أن عبور حدود الدول يحتاج إلى تأشيرات، ومن مثل أن منظومات القوانين ليست موحّدة. لا شك في أن وظائف الدولة قد تراجعت في السنوات الثلاثين الأخيرة ولكن صفة "المواطنة العالمية" لا يكتسبها (لا يستحقها؟) مواطنو الدول الفاشلة. ومن لا يصدّق فليختبر بنفسه تقسيم مواطني العالم درجات في مطارات الدول الغربية.
فكرة الدولة اليوم لا تمتلك إمكان التحقق في الظروف الراهنة. نحن بحاجة إلى وقفة تأمل تبدأ بإعلان فشلنا وفشل كل من سبقنا، وافتتاح عملية إبداع شكل الفكرة التي نقبل بها جميعاً كلبنانيين. علينا إعمال عقولنا في التفكير في وظائف للدولة نرتضيها جميعاً. وعلينا ابتكار الشكل المنوط به أداء هذه الوظائف والسماح له، لمرّة واحدة وأخيرة، بالاستقلال عن الجماعات اللبنانية، وممارسة القمع على أيّ ردّة. بمعنى آخر، علينا التوصل إلى اتفاق حقيقي ناتج من اقتناع كل الجماعات اللبنانية بأن مصلحتها تحققها الدولة، لا إلى اتفاق تقطيع وقت على شاكلة وثيقة الوفاق الوطني، التي وقّعها الفريق المنتصر في الحرب وهو متيقن بأنه يستطيع انتهاكها، ووقّعها الفريق الخاسر في الحرب على أمل أن يخرج منها مارد يؤمّن له "حقوقه"، واتفاق الدوحة.
مواثيق ضد الدولة!
في السياسة اللبنانية يعلى من شأن الاتفاقات الجماعاتية على حساب الدستور الجامع. كثيرون يتحدثون عن تعديل اتفاق الطائف أو المحافظة عليه، ولا يتحدثون عن تعديل الدستور أو المحافظة عليه. هذا يحتاج إلى وقفة تأمل.
بعض المثقفين اللبنانيين حاول التأسيس على أهمية المواثيق في حياة الأمم. أعتقد أن جهودهم الكبيرة ذهبت هباءً منثوراً. فكرة الميثاق الوطني وأهميته لا تمسّ أحاسيس اللبنانيين الشيعة لأنهم لم يكونوا شريكاً في الميثاق وخصوصاً أن ما كان يسمّيه اللبنانيون "الاسلام السياسي" تفكك. لم يعد من معنى للتنازل عن مطلب الوحدة العربية ولا للتعهد بعدم الإندفاع غرباً. لم ينجح اللبنانيون في تأسيس أمة على فكرة الميثاق الوطني. الآن انتهت مدّة صلاحيته.
تبقى "وثيقة الوفاق الوطني" آخر المواثيق الوطنية اللبنانية. مذ اتفق اللبنانيون (معظمهم) على هذه الوثيقة، حتى اليوم، لم ينجحوا في تأسيس دولة ما بعد الحرب الأهلية المستقرة. ارتبطت فكرة إنهاء الحرب الأهلية في أذهان اللبنانيين بالاتفاق الدولي على إنهائها لا بروح اتفاق الطائف الذي أخرجه هذا التوافق الدولي. لم يكن الحس الشعبي مخطئاً.
تعدّل الدستور اللبناني عام 1991 استناداً إلى النصوص المتوافق عليها في اتفاق الطائف. تحددت علاقة جديدة بين السلطات الدستورية والطوائف اللبنانية. كل ما له علاقة بموقع الطوائف اللبنانية في الحكم اللبنانية تدستر. لا يبقى الشيء الكثير الأهمية في الاتفاق. حتى البند الذي اكتشفه البعض حديثاً والذي يتحدث عن حلّ الميليشيات لطالما تم تفسيره، وبتوافق وطني، على أساس أنه يستثني الميليشيات المقاومة. إن المواثيق الوطنية ليست مواويل ليعاد غناؤها كلما شئنا. الميثاق الوطني التأسيسي يفرض تأويله منذ اللحظة الأولى ولا يمكن إعادة تأويله بعد مرور الزمن إلا بميثاق جديد.
نعود إلى السؤال أعلاه: لماذا يتحدث السياسيون عن وثيقة الوفاق الوطني ولا يتحدثون عن دستور الدولة؟ مصطلح وثيقة الوفاق الوطني يحمل فكرة أن جماعات مختلفة جلست وقبلت به. مصطلح الدستور لا يحمل هذا المعنى، فهو يرتقي رمزياً إلى مرتبه الجامع وينفصل، رمزياً ومادياً، عن واضعيه. القوى السياسية اللبنانية ترفض التنازل الرمزي لمصلحة الدولة الجامعة. تريد تقليص الدولة إلى مستوى خريطة موضوعة على طاولة، كطاولات التشاور والحوار التي تعتدي على مؤسسات الدولة ورمزيتها الجامعة.
إن بناء دولة لبنانية تستحق الاحتفال بأعياد لاستقلالها أو استقلالاتها، ليس مسألة سهلة. إنها مسألة تحتاج إلى إبداع صيغة تستجيب لهواجس كل الطوائف والجماعات اللبنانية وتضمن عدالة مشاركتها في الدولة الجامعة.
ليس القصد من كلّ ما سبق تعقيد المسألة لإخراجها من التداول. بل هو كلام صريح في ذكرى تعني لي شخصياً الكثير، في لحظة ألم من الإعتراف بالانتماء إلى وهم! نستطيع تأكيد بديهيات أن لا دولة بلا حصر السلاح في أيدي سلطة مركزية وبلا إلغاء طائفية التوظيف وبلا سدّ مزاريب الفساد وبلا وضع آليات لحرمان الجماعات اللبنانية من ارتباطاتها السياسية ـ المالية مع الخارج. لكن الطريق إلى تحقيق هذه البديهيات الوطنية وبقية عناصر الصيغة تحتاج إلى إبداع.
(نشرتها في النهار، السبت 24 تشرين الثاني)