صورة المدونة

صورة المدونة

الخميس، 1 أغسطس 2013

الشعب يريد الجيش!


"الشعب يريد الجيش". هكذا قرّر القيّمون على الحملة "الشعبية" الهادفة إلى دعم الجيش اللبناني بمناسبة اقتراب موعد عيد الجيش في الأول من آب. تعددت الإعلانات والجوهر واحد: إنفصام عن الواقع!

مديرية التوجيه في الجيش قررت التوجه إلى اللبنانيين في هذه المناسبة بشعار يتيم هو "وعدي إلك وحدك". لم يختر الجيش مخاطبة اللبنانيين بعبارة تعكس إرادته الصلبة في تطبيق القوانين وردع المخالفين لإشعارهم بأمانٍ يفتقدونه. اكتفى بشعار بسيط وعام أراد من خلاله التأكيد على دوره الوطني وعلى حصرية ارتباطه بالوطن لا بأي كيان آخر.

ولكن إلى جانب شعار الجيش انتشرت إعلانات حملة "الشعب يريد الجيش". تبنّت الحملة شعاراً يتنافى مع واقع الحال الذي يعيشه اللبنانيون خاصةً في الشهرين الأخيرين. من عرسال والحدود اللبنانية ـ السورية إلى صيدا مروراً بطرابلس وأماكن أخرى وجّهت قوى سياسية عدّة انتقادات لعمل الجيش. وعلى الرغم من هذا الواقع الإنقسامي، قرر أحدهم أن "الشعب يريد الجيش"! لعلّه يختصر الشعب بنفسه!

قراءة بسيطة للواقع اللبناني تثبت أنه لا يمكن لمؤسسة الجيش أن تقوم بدورها بشكل يرضي جميع القوى السياسية واستطراداً جميع فئات الشعب اللبناني. كل طرف من طرفي الصراع اللبناني يريد من الجيش ضرب خصومه ويدعوه ضمنياً إلى بناء تحالف معه في مواجهة الآخرين. وهكذا، فإن الإنتظارات الشعبية من الجيش تتناقض إلى حدّ أن أيّة عملية ينفذها الجيش لن تستطيع أن تثير قراءة لها من خارج الإنقسام اللبناني. يشهد على هذا الأمر التوزيع السياسي ـ الطائفي للمتضامنين مع الجيش حين كل عملية ينفذها. اللبناني ما عاد يطيق الاستماع إلى أي لحن لا ينسجم مع سيمفونية طائفتة. هذا هو الواقع.


"أنا نازلي قلبي أعطيهن"، "أنا نازل أوقف حدّن"، "أنا نازلي لربّي صلّيلن" (جملة لا تصلح حتى لغوياً)، "أنا نازل إكبر فيهن"... تأتي إجابات مواطنين يرتدون بذلة الجيش على سؤال "إنت شو نازل تعمل؟". يتم تصوير الجيش في حملة التضامن معه ككيان يحتاج إلى رعاية شعبية ليشتّد بها عوده. ولهذا الغرض يتم تنظيم احتفال شعبي بعيده الذي، في العادة، لا يشهد احتفالات شعبية!

يعطي القيّمون على الحملة الجيش تفويضاً شعبياً من المواطنين بمعزل عن مؤسسات الدولة السياسية. الخطير في هذا الأمر أن قراءة رسائل الإعلانات لا يمكن إلا أن تكون إنقسامية بسبب إنقسام اللبنانيين. فإعلانات "الشعب يريد الجيش" تنتشر بكثافة على الأوتوستراد الذي يصل الدورة بجبيل وتظهر بخجل في المناطق الأخرى. وهكذا تتنافس مع إعلانات للتيار الوطني الحر وللقوات اللبنانية موضوعها استرجاع حقوق المسيحيين! غياب العدالة في التوزيع يُحفّز على قراءة غير وطنية للرسالة. هل انتبه المُعلن إلى هذه المسألة؟


لا تنطلق الإعلانات من الواقع الدستوري اللبناني الذي يفوّض مجلس الوزراء صلاحية اتخاذ القرارات السياسية ولا يترك للجيش سوى دور تنفيذي. يعود ذلك إلى خطأ في فهم دور الجيش في الأنظمة الديمقراطية، خطأ يعود إلى فترة الإنتداب السوري حين كان يتم الإحتفال في الأول من آب بعيد الجيشين اللبناني والسوري. تسربت الثقافة البعثية إلى لغة القوى السياسية اللبنانية ووصلت حتى إلى مؤسسة الجيش اللبناني. ظهر مصطلح راح يتردد في ما بعد بصورة آلية دون الانتباه إلى مضامينه. إنه مصطلح "عقيدة الجيش".

يعود هذا المصطلح الخطير على الحياة الديمقراطية الطبيعية إلى يسار حزب البعث وبالتحديد إلى أكرم الحوراني الذي كان يعوّل على إدخال عناصر حزبية مؤدلجة إلى الجيش السوري. في الأنظمة الديمقراطية يلعب الجيش دور أداة تنفيذية تتبنّى السياسة التي تحددها المؤسسات الدستورية. لا يحق للجيش تبنّي عقيدة بمعزل عن السلطة السياسية فهو يجب أن يكون مؤسسة غير عقائدية ومرتبطة بهذه السلطة.

الحملة الإعلانية "الشعبية" تصل إلى حدّ التوجه للجيش، بلسان اللبنانيين، بالقول: "إنت فصّل كلنا منلبس". هو الإنقسام السياسي في لبنان يدفع بالبعض إلى انتظار مخلّص ما. ولكن عفواً. هذا شعار مرفوض جملة وتفصيلاً في نظام ديمقراطي وفي دولة لا تزال تعاني من آثار كتاب فؤاد عون المعنون "الجيش هو الحل" وفي واقع إقليمي شهد مؤخراً ظاهرة عبد الفتاح السيسي.

ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة

آخر نشاطات الديبلوماسية اللبنانية كان حركة وزير الخارجية عدنان منصور للحؤول دون إدراج حزب الله على لائحة الإتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية. فشل التحرك. ولكن بغض النظر عن نتيجته فإن طبيعته وموضوعه يدلان على أمر خطير: لقد حُدّت الديبلوماسية اللبنانية، في سنواتها الأخيرة، بنشاط جلّ هدفه "ترقيع" الصيغة اللبنانية.

بغض النظر عن شخصية الوزير منصور والتي لا توحي بأنه صاحب حنكة، فإن عقم سياسة لبنان الخارجية ناتج عن أسباب أعمق بكثير من مؤهلات الوزير. جوهر الموضوع أنه من المحال على الدولة اللبنانية، بشكلها الراهن، أن تنتج ديبلوماسية فعالة. المقاربة نفسها يمكن تعميمها لتطال آخر تجارب شهدتها وزارة الخارجية اللبنانية.

الهدف من نشاط وزارة الخارجية الأخير كان دفع دول الإتحاد الأوروبي إلى غضّ النظر عن مشكلة كبيرة تتمثل في نشاط حزب الله الذي لم يكتف بتعقيد الوضع اللبناني الداخلي بل فاض عن حدود لبنان وبلغ مبالغ يصعب تحديدها بدقة. كل الحجج التي من الممكن أن تطرحها المنظومة الديبلوماسية اللبنانية ترتكز على واقعة وحيدة: لبنان دولة متعددة يجب أن يتمثل في مؤسساتها الدستورية كلّ القوى السياسية التي تمثل الطوائف اللبنانية! أو بمعنى آخر: ساعدونا على "ترقيع" صيغتنا نحن من لا نأبه بانعكاسات تناقضاتنا على الآخرين. مستحيل "تسويق" هكذا سياسة!

لسنوات خلت لم تستطع سياسة لبنان الخارجية، على مستوى المطالب الوطنية، سوى انتاج ديبلوماسية سلبية عقيمة حتى في سلبيّتها! غابت قضية استعادة مزارع شبعا ولم يتم إيقاظ مطلب ترسيم الحدود اللبنانية السورية على الرغم من الضحايا المدنيين الذين سقطوا بسبب عجز الدولة عن تحديد حدودها وحمايتها.

حتى في مسألة النازحين السوريين إلى لبنان، أغمضت ديبلوماسيتنا عينيها عن واقع أن المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان على أساس أنه أرض بلا سلطة سياسية. تدفق النازحون في ظل غياب أيّة خطة وطنية للتعاطي مع الأزمة. كل ما قامت به الديبلوماسية اللبنانية هو طلب بعض المساعدات لكي لا يمزّق ثقل النزوح الصيغة اللبنانية! وكانت النتيجة أن بدأت المساعدات الدولية بالتدفق، على الرغم من خجلها، من دون المرور بمؤسسات الدولة.

منذ فترة طويلة لم يعد المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان كدولة. حتى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أتى فرضاً، لكن مجلس الأمن أخرجه بطريقة تحفظ لنا بعض المتبقي من كرامة وطنية. وحين أرسلت مساهمة لبنان الأخيرة في تكلفة إدارة هذه المحكمة، أرسلت بطريقة غير مؤسساتية وبهدف "ترقيع" الصيغة وعدم مواجهة سنّة لبنان المصرّين على استمرار عملها.

صار نشاط الديبلوماسية اللبنانية يقتصر على أداء وظيفة "رسول الطوائف". تحلل الدولة اللبنانية أحدث فصلاً مخيفاً بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. لا يمكن للخارجية، إن فاوضت، وبغض النظر عن الموضوع أن تستجيب لأي مطلب يتعلق بالداخل اللبناني إلا بشرط موافقة السلطة الطائفية التي يعنيها هذا المطلب. أين هم المطلوبون من المحكمة الدولية على سبيل المثال؟ يظن ممثلو لبنان أنهم أذكياء وأن المجتمع الدولي اقتنع برسائل لبنان التي تدّعي أن الدولة تقوم بجهد للتحري عن المطلوبين. لا يعلمون أن "لطف" المجتمع الدولي مردّه إلى تأجيل إعلان لبنان دولة فاشلة لأن هكذا إعلان سيرتب عليهم مسؤوليات هم بغنى عن تحمّلها في المرحلة الراهنة.

المجتمع الدولي ادرك هذه الحقيقة منذ وقت طويل. فصار يفاوض صاحب الشأن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وتجاوز العلاقات المؤسساتية مع الدولة اللبنانية. صارت المفاوضات على "تحركات الأهالي" الموجهة ضد قوات اليونيفيل أجدى من خطابات الديبلوماسيين اللبنانيين في الأمم المتحدة.

لنختصر المشهد برمته. لبنان مجتمع مفكك تتناقض سياسات طوائفه الخارجية إلى حدّ خطر إندلاع حرب أهلية. لا يمكن بناء سياسة خارجية على هذا الكم من التناقضات. كل سياسة خارجية هي "تسويق" لتفاهمات داخلية. يمكن أن تنجح وزارة الخارجية في مهمة "التسويق" ويمكن أن تفشل. هذا يعود إلى الواقعية السياسية السائدة في العلاقات الدولية. ولكن لا يمكن لدولة أن تبني سياسة خارجية على مسائل تثير الخلاف في مجتمعها.

كل فشل في السياسة الخارجية سببه ليس تواطؤ المجتمع الدولي ولا أيّة مؤامرات متخيّلة، بل هو ناتج، بشكل أساسي، عن فشل اللبنانيين في بناء دولتهم وعجزهم عن الاتفاق على تصوّر مشترك لمستقبل لبنان واللبنانيين. ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة لم تعد مجدية فالصيغة اهترأت وما عاد من الممكن ترميمها إلا بميثاق وطني جديد.

منشور في www.almodon.com في 22/7/2013

البتر المستدام

أقل ما يُقال عن التعدّي على الشاب ربيع الأحمد، إبن بلدة حرار العكارية، إنه مرعب. مرعب ما يختزنه قطع عضوه التناسلي من عنف وثقافة إلغائية وصلت إلى حد الاستئصال. ولكن أرعب ما فيه هو أنه فعل غير منعزل عن مسار إلغائي بات يحدّد حركة الإجتماع اللبناني.

رمزياً، يحيل العنف المختزن في ما فعلته العائلة البيصورية إلى إرادة استئصال أيّة علاقة قائمة مع "الآخر". ليس العضو التناسلي كعضو، هو المستهدف في هذه الجريمة بل هي العلاقة التي يرمز إليها العضو. على المستوى المادي هي جريمة استثنائية ببشاعتها، ولكن على المستوى الرمزي تتقاطع مع جرائم كثيرة يرتكبها اللبنانيون بحق بعضهم البعض وإن كانوا يغلفونها بكلام مزخرف أو يمررونها بطريقة شبه مخفيّة.

اقتصار الحديث عن جريمة بيصور يبعد أنظارنا عن السياق الكبير الذي تندرج فيه. هو زمن البتر الذي وصلنا إليه كلبنانيين متنوّعين. كل صلة عابرة لحدود مجتمعات التنوّع اللبناني شبه المنعزلة باتت مهددة بالبتر. الأمثلة أكثر من أن تحصى، والمشتركون فيها يتوزّعون على كافة الطوائف اللبنانية. لا فضل لطائفة على أخرى إلا بطريقة البتر.

تتعدد الأشكال وبتر الصلات بين اللبنانيين المختلفين واحد. عندما وقع الاعتداء على الشيخين في منطقة الخندق الغميق كانت الحادثة مؤشراً على الدرك الذي وصلت إليه الصلات بين السنّة والشيعة والتي ما عادت تتحمل مروراً آمناً للسنّة (أقلّه للكثافة السنّية معبراً عنها بمظهر اللحية والشاربين المحفوفين) في الأحياء الشعبية الشيعية. وفي المقابل كان هجر بعض أصحاب المصالح والسكان الشيعة لمنطقة الطريق الجديدة بسبب تعديات تعرّضوا لها مؤشراً على المأساة نفسها في المقلب الآخر.

كلّما دارت اشتباكات في طرابلس يستغل بعض الغلاة المناسبة ويقومون بحرق محلات العلويين في قلب المدينة. ليس هذا سوى بتر للعلاقة التي تقوم بين أبناء الطائفتين السنّية والعلوية في عاصمة الشمال.

البتّارون يطوفون بحرية في كلّ البيئات الطائفية اللبنانية. أحد الكتاب اعتبر أن قرية علما الشعب الجنوبية الحدودية انضمت إلى "لائحة الشرف" حين رفض مخاتيرها توقيع علم وخبر لنقل ملكية قطعة صغيرة من الأرض لا تتعدى مساحتها ثلاثة دونمات من أحد أبنائها إلى "غريب". ولخصت صحافية واقع "أراضي المسيحيين" بالتالي: "مثلما باع يهوذا السيد المسيح بقبلة وحفنة من الدراهم، هكذا يفعل المسيحيون اليوم بأراضيهم... بقبلة الإستغناء ورزمة من العملة الخضراء".

إنه مديح البتر في ثقافتنا المأزومة. وهو ليس ثقافة شعبية فقط بل يجد تعبيرات عنه في كلام السياسيين. فالنائب بطرس حرب اقترح قانوناً يمنع بيع الأراضي بين أبناء الطوائف اللبنانية المختلفة. وزميله سامي الجميّل قال مرّة إن بيع المسيحيين لأراض واقعة في منطقة الشوف وعاليه للبنانيين شيعة يعتبر تعدّياً على "مناطقنا وتاريخنا وهويتنا وأرضنا وشهدائنا ونضالنا، ويجب أن نواجههم". ومن جانبه أيضاً، دعا إلى إقرار قانون "يهدف إلى الحد من عملية بيع الأراضي التي تحصل بشكل همجي". الجميّل غلّف مقاصده بخدعة من خلال استبداله كلمة الشيعة بحزب الله. أراد تلطيف مديحه للبتر بغلاف سياسي ـ استراتيجي.

ولكن بلديات الحدث وكفرشيما، حين ترفض تسجيل شقة سكنية يشتريها لبناني شيعي أصدق في ممارستها من النائب الشاب. كذلك الأمر بالنسبة لـ"لجنة المتابعة في القبيات" التي تضم ممثلين عن القوى السياسية في البلدة حين ندّدت "بالعمل المشين" الذي أقدم عليه أحد أبناء البلدة ببيعه أرضه "بطريقة مخادعة و سرّية"، واعتبرت أنّ كل محاولة لشراء أرض من القبيات هو "تعدّ على القبيات وأهلها".

صار كل اختلاط بين اللبنانيين يقع في دائرة المهدد بالبتر.  أمام هذا الواقع، هل نقتنع بكلام رئيس بلدية بيصور حين قال "إن الجريمة فردية" وليس لها أيّة تداعيات طائفية؟ وهل نأمن لاعتبار الحزب التقدمي الإشتراكي أن ما وقع في بيصور هو "مسألة شخصيّة"؟


أصبح ملحاً فتح ملف العلاقات بين اللبنانيين بشكل صريح، وإيقاف المهزلة التي تطلّ علينا بجرائم وبشاعات مختلفة. ما يحصل في لبنان "بالمفرّق" يقضي "بالجملة" على الصلات القليلة الباقية بين اللبنانيين.

منشور في www.almodon.com في 19/7/2013