إذا غاب حضور الدولة الأمني، لأي سبب من الأسباب، عن حيّ من الأحياء، ستنشأ منظومة أمنية بديلة ربما تكون عبارة عن شلّة شباب تفرض معايير نظام ترتأيه على جميع أبناء الحيّ. لعلّ التذكير بهذه البديهية يساعد على الإنطلاق لفهم حالة "المربّعات الأمنية" التي تجتاح لبنان.
في المجتمعات البشرية، لا شيء إسمه الفراغ الأمني. كل ما في الأمر أن الأمن يُفرض بأساليب مختلفة ربما لا تكون موضع إجماع على شرعيتها. وطبعاً، لكل أسلوب تبعاته على الاستقرار والحريات والاقتصاد وكل نواحي الحياة.
منذ ستة قرون ، اعتبر الفيلسوف توماس هوبز أن الدولة هي "ليفياتان" (وحش أسطوري) ضروري للانتقال من حالة الفوضى إلى حالة المجتمعات المنظمة. برأيه، يتخلّى المواطنون عن حرياتهم كافة لصالح سلطة مطلقة تمنع انتشار الفوضى بينهم وتعدّي بعضهم على ملكيات بعضهم الآخر. في ما بعد، تطورت تصوّرات علاقة السلطة بالمواطن حتى غلبت الرؤية الليبرالية التي تقول بأن الدولة تتولّى وظيفة الشرطي لتنظيم مجتمع يتمتع أفراده بما نسميه حقوق الإنسان.
الدولة اللبنانية هي دولة ديموقراطية لكنها غير قادرة على لعب دور الشرطي. خلال الحرب اللبنانية الأهلية، انتزعت الميليشيات منها هذا الدور. ملأت الفراغات الأمنية الناتجة عن قصور أو عزوف الدولة عن أداء هذه المهمة التي تأتي على رأس أولوياتها لا بل في صلب فلسفة نشوئها. إلى جانب أسماء الميليشيات اشتهرت أسماء أشخاص مثل "الحنش" و"الدنكورة" وغيرهم ممن آتاهم الله قوة التسلط على غيرهم.
بعد انتهاء الحرب، استعادت الدولة دورها الأمني باستثناء مناطق "المقاومة"، أي مربعات حزب الله الأمنية التي هي في الحقيقة معظم مناطق انتشار أبناء الطائفة الشيعية. وسنة بعد سنة، كانت قوة حزب الله تتضاعف ويتضاعف معها ما يقتطعه من مساحات يفرض عليها منظومته الأمنية الخاصة، بمعنى أنه يفرض على أجهزة الأمن الرسمية التنسيق معه قبل أي خطوة تقوم بها في هذه المناطق.
ولعل أبرز سمات لبنان 2013 "فوضى انتشار السلاح" وانتشار "المربعات الأمنية". أضيفت إلى حالة حزب الله الأمنية الخاصة حالة طرابلسية فرضت على الأجهزة الأمنية التفاوض معها كلّما أرادت تنفيذ مهمة. ووصل الأمر إلى حدّ أن إمام مسجد صغير شكّل الميليشيا الخاصة به هنا ورئيس بلدية صار يرسل مسلحين لتنفيذ مهمة هناك وتاجر مخدرات ينشئ مملكته الخاصة.
فشل الدولة ناتج عن كون المجتمعات اللبنانية أقوى منها. فحتى قبل الحرب، لم تلعب الدولة دورها الحارس كما يجب ولم تؤسس لشرعية أدائها هذا الدور. استأجرت قبضايات الأحياء لكي يعملوا لصالحها لا لصالحهم الخاص ومارست سيادة فرّق تسد بين العشائر البقاعية.
الدولة في لبنان هي مجرد إداري للمساحات التي تقبل الطوائف بالتخلي عنها لإدارة مشتركة! "مقولة الأمن بالتراضي" ليست مقولة وهمية بل مقولة تختصر الواقع إلى حد بعيد وتؤشر إلى هلامية هذا الكيان الذي نسمّيه دولة. المساحات التي تديرها الدولة تتسع وتضيق بحسب علاقات الطوائف بعضها بعضاً.
المسيطر على مؤسسات الدولة هو مَن يتحدث عن الدولة وهيبتها وشرعيتها وما شاكل هذه المصطلحات. هذا يفسّر تغيّر نظرة الأطراف السياسية إلى مؤسسات الدولة الأمنية بين مرحلة وأخرى. في ذروة نفوذ المارونية السياسية لم يخجل حزب الكتائب من إنشاء ميليشيا لمؤازرة الجيش اللبناني فهو كان ينظر إلى الدولة كدولة الموارنة. والآن تتغيّر هوية مدّاحي الجيش اللبناني بحسب موقعهم في السلطة ونسمع المسيطرين يرددون مقولات "التعاون مع القوى الأمنية" و"مؤازرتها".
أما المقصي عن مؤسسات الدولة فيتحدث عن "انتفاضة الكرامة" وعن الدولة "الصقر علينا لا على مشروع الآخرين" (بتصرّف). هو من "تهتز ثقته" بجيش الدولة ويرفع عنه "العصمة" ويتهمه بـ"الإنحراف" لخدمة مصالح "بعض الأحزاب أو الأطراف المحلية أو الإقليمية" ويطالب بتشكيل "مجلس عسكري لأهل الطائفة". من يشعر بـ"استنسابية" تعاطي مؤسسات الدولة معه هو مَن يحذر من "الطلاق من الدولة".
وتبقى النتيجة أن فرض الأمن في دولة قيد التشكّل ـ وهذه هي حالة الدولة اللبنانية ـ تكون إما من خلال سلطة ديكتاتورية أو بالاتفاق بين جميع مكوّناتها على إيكال هذه المهمة لأجهزة عامة تمارس عملها وفق معايير معيّنة تسري على الجميع وتكون قادرة على قمع خروج الجميع عن النظام المتفق عليه.
إلى حين تحقق أحد هذين الاحتمالين سيبقى خروج مناطق عن سلطة الدولة الأمنية وخضوعها لسلطة أحزاب الطوائف ظاهرة معدية لـ"الطوائف المسالمة" انطلاقاً من سعي الطوائف إلى تعزيز نقاط قوتها في المنظومة اللبنانية الطائفية.
نشر في موقع المدن الالكتروني في الخميس 28/02/2013
www.almodon.com
الصورة الاولى المرفقة منقولة عن: http://news.bbc.co.uk
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق