صورة المدونة

صورة المدونة

الخميس، 1 أغسطس 2013

الشعب يريد الجيش!


"الشعب يريد الجيش". هكذا قرّر القيّمون على الحملة "الشعبية" الهادفة إلى دعم الجيش اللبناني بمناسبة اقتراب موعد عيد الجيش في الأول من آب. تعددت الإعلانات والجوهر واحد: إنفصام عن الواقع!

مديرية التوجيه في الجيش قررت التوجه إلى اللبنانيين في هذه المناسبة بشعار يتيم هو "وعدي إلك وحدك". لم يختر الجيش مخاطبة اللبنانيين بعبارة تعكس إرادته الصلبة في تطبيق القوانين وردع المخالفين لإشعارهم بأمانٍ يفتقدونه. اكتفى بشعار بسيط وعام أراد من خلاله التأكيد على دوره الوطني وعلى حصرية ارتباطه بالوطن لا بأي كيان آخر.

ولكن إلى جانب شعار الجيش انتشرت إعلانات حملة "الشعب يريد الجيش". تبنّت الحملة شعاراً يتنافى مع واقع الحال الذي يعيشه اللبنانيون خاصةً في الشهرين الأخيرين. من عرسال والحدود اللبنانية ـ السورية إلى صيدا مروراً بطرابلس وأماكن أخرى وجّهت قوى سياسية عدّة انتقادات لعمل الجيش. وعلى الرغم من هذا الواقع الإنقسامي، قرر أحدهم أن "الشعب يريد الجيش"! لعلّه يختصر الشعب بنفسه!

قراءة بسيطة للواقع اللبناني تثبت أنه لا يمكن لمؤسسة الجيش أن تقوم بدورها بشكل يرضي جميع القوى السياسية واستطراداً جميع فئات الشعب اللبناني. كل طرف من طرفي الصراع اللبناني يريد من الجيش ضرب خصومه ويدعوه ضمنياً إلى بناء تحالف معه في مواجهة الآخرين. وهكذا، فإن الإنتظارات الشعبية من الجيش تتناقض إلى حدّ أن أيّة عملية ينفذها الجيش لن تستطيع أن تثير قراءة لها من خارج الإنقسام اللبناني. يشهد على هذا الأمر التوزيع السياسي ـ الطائفي للمتضامنين مع الجيش حين كل عملية ينفذها. اللبناني ما عاد يطيق الاستماع إلى أي لحن لا ينسجم مع سيمفونية طائفتة. هذا هو الواقع.


"أنا نازلي قلبي أعطيهن"، "أنا نازل أوقف حدّن"، "أنا نازلي لربّي صلّيلن" (جملة لا تصلح حتى لغوياً)، "أنا نازل إكبر فيهن"... تأتي إجابات مواطنين يرتدون بذلة الجيش على سؤال "إنت شو نازل تعمل؟". يتم تصوير الجيش في حملة التضامن معه ككيان يحتاج إلى رعاية شعبية ليشتّد بها عوده. ولهذا الغرض يتم تنظيم احتفال شعبي بعيده الذي، في العادة، لا يشهد احتفالات شعبية!

يعطي القيّمون على الحملة الجيش تفويضاً شعبياً من المواطنين بمعزل عن مؤسسات الدولة السياسية. الخطير في هذا الأمر أن قراءة رسائل الإعلانات لا يمكن إلا أن تكون إنقسامية بسبب إنقسام اللبنانيين. فإعلانات "الشعب يريد الجيش" تنتشر بكثافة على الأوتوستراد الذي يصل الدورة بجبيل وتظهر بخجل في المناطق الأخرى. وهكذا تتنافس مع إعلانات للتيار الوطني الحر وللقوات اللبنانية موضوعها استرجاع حقوق المسيحيين! غياب العدالة في التوزيع يُحفّز على قراءة غير وطنية للرسالة. هل انتبه المُعلن إلى هذه المسألة؟


لا تنطلق الإعلانات من الواقع الدستوري اللبناني الذي يفوّض مجلس الوزراء صلاحية اتخاذ القرارات السياسية ولا يترك للجيش سوى دور تنفيذي. يعود ذلك إلى خطأ في فهم دور الجيش في الأنظمة الديمقراطية، خطأ يعود إلى فترة الإنتداب السوري حين كان يتم الإحتفال في الأول من آب بعيد الجيشين اللبناني والسوري. تسربت الثقافة البعثية إلى لغة القوى السياسية اللبنانية ووصلت حتى إلى مؤسسة الجيش اللبناني. ظهر مصطلح راح يتردد في ما بعد بصورة آلية دون الانتباه إلى مضامينه. إنه مصطلح "عقيدة الجيش".

يعود هذا المصطلح الخطير على الحياة الديمقراطية الطبيعية إلى يسار حزب البعث وبالتحديد إلى أكرم الحوراني الذي كان يعوّل على إدخال عناصر حزبية مؤدلجة إلى الجيش السوري. في الأنظمة الديمقراطية يلعب الجيش دور أداة تنفيذية تتبنّى السياسة التي تحددها المؤسسات الدستورية. لا يحق للجيش تبنّي عقيدة بمعزل عن السلطة السياسية فهو يجب أن يكون مؤسسة غير عقائدية ومرتبطة بهذه السلطة.

الحملة الإعلانية "الشعبية" تصل إلى حدّ التوجه للجيش، بلسان اللبنانيين، بالقول: "إنت فصّل كلنا منلبس". هو الإنقسام السياسي في لبنان يدفع بالبعض إلى انتظار مخلّص ما. ولكن عفواً. هذا شعار مرفوض جملة وتفصيلاً في نظام ديمقراطي وفي دولة لا تزال تعاني من آثار كتاب فؤاد عون المعنون "الجيش هو الحل" وفي واقع إقليمي شهد مؤخراً ظاهرة عبد الفتاح السيسي.

ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة

آخر نشاطات الديبلوماسية اللبنانية كان حركة وزير الخارجية عدنان منصور للحؤول دون إدراج حزب الله على لائحة الإتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية. فشل التحرك. ولكن بغض النظر عن نتيجته فإن طبيعته وموضوعه يدلان على أمر خطير: لقد حُدّت الديبلوماسية اللبنانية، في سنواتها الأخيرة، بنشاط جلّ هدفه "ترقيع" الصيغة اللبنانية.

بغض النظر عن شخصية الوزير منصور والتي لا توحي بأنه صاحب حنكة، فإن عقم سياسة لبنان الخارجية ناتج عن أسباب أعمق بكثير من مؤهلات الوزير. جوهر الموضوع أنه من المحال على الدولة اللبنانية، بشكلها الراهن، أن تنتج ديبلوماسية فعالة. المقاربة نفسها يمكن تعميمها لتطال آخر تجارب شهدتها وزارة الخارجية اللبنانية.

الهدف من نشاط وزارة الخارجية الأخير كان دفع دول الإتحاد الأوروبي إلى غضّ النظر عن مشكلة كبيرة تتمثل في نشاط حزب الله الذي لم يكتف بتعقيد الوضع اللبناني الداخلي بل فاض عن حدود لبنان وبلغ مبالغ يصعب تحديدها بدقة. كل الحجج التي من الممكن أن تطرحها المنظومة الديبلوماسية اللبنانية ترتكز على واقعة وحيدة: لبنان دولة متعددة يجب أن يتمثل في مؤسساتها الدستورية كلّ القوى السياسية التي تمثل الطوائف اللبنانية! أو بمعنى آخر: ساعدونا على "ترقيع" صيغتنا نحن من لا نأبه بانعكاسات تناقضاتنا على الآخرين. مستحيل "تسويق" هكذا سياسة!

لسنوات خلت لم تستطع سياسة لبنان الخارجية، على مستوى المطالب الوطنية، سوى انتاج ديبلوماسية سلبية عقيمة حتى في سلبيّتها! غابت قضية استعادة مزارع شبعا ولم يتم إيقاظ مطلب ترسيم الحدود اللبنانية السورية على الرغم من الضحايا المدنيين الذين سقطوا بسبب عجز الدولة عن تحديد حدودها وحمايتها.

حتى في مسألة النازحين السوريين إلى لبنان، أغمضت ديبلوماسيتنا عينيها عن واقع أن المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان على أساس أنه أرض بلا سلطة سياسية. تدفق النازحون في ظل غياب أيّة خطة وطنية للتعاطي مع الأزمة. كل ما قامت به الديبلوماسية اللبنانية هو طلب بعض المساعدات لكي لا يمزّق ثقل النزوح الصيغة اللبنانية! وكانت النتيجة أن بدأت المساعدات الدولية بالتدفق، على الرغم من خجلها، من دون المرور بمؤسسات الدولة.

منذ فترة طويلة لم يعد المجتمع الدولي يتعاطى مع لبنان كدولة. حتى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أتى فرضاً، لكن مجلس الأمن أخرجه بطريقة تحفظ لنا بعض المتبقي من كرامة وطنية. وحين أرسلت مساهمة لبنان الأخيرة في تكلفة إدارة هذه المحكمة، أرسلت بطريقة غير مؤسساتية وبهدف "ترقيع" الصيغة وعدم مواجهة سنّة لبنان المصرّين على استمرار عملها.

صار نشاط الديبلوماسية اللبنانية يقتصر على أداء وظيفة "رسول الطوائف". تحلل الدولة اللبنانية أحدث فصلاً مخيفاً بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. لا يمكن للخارجية، إن فاوضت، وبغض النظر عن الموضوع أن تستجيب لأي مطلب يتعلق بالداخل اللبناني إلا بشرط موافقة السلطة الطائفية التي يعنيها هذا المطلب. أين هم المطلوبون من المحكمة الدولية على سبيل المثال؟ يظن ممثلو لبنان أنهم أذكياء وأن المجتمع الدولي اقتنع برسائل لبنان التي تدّعي أن الدولة تقوم بجهد للتحري عن المطلوبين. لا يعلمون أن "لطف" المجتمع الدولي مردّه إلى تأجيل إعلان لبنان دولة فاشلة لأن هكذا إعلان سيرتب عليهم مسؤوليات هم بغنى عن تحمّلها في المرحلة الراهنة.

المجتمع الدولي ادرك هذه الحقيقة منذ وقت طويل. فصار يفاوض صاحب الشأن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وتجاوز العلاقات المؤسساتية مع الدولة اللبنانية. صارت المفاوضات على "تحركات الأهالي" الموجهة ضد قوات اليونيفيل أجدى من خطابات الديبلوماسيين اللبنانيين في الأمم المتحدة.

لنختصر المشهد برمته. لبنان مجتمع مفكك تتناقض سياسات طوائفه الخارجية إلى حدّ خطر إندلاع حرب أهلية. لا يمكن بناء سياسة خارجية على هذا الكم من التناقضات. كل سياسة خارجية هي "تسويق" لتفاهمات داخلية. يمكن أن تنجح وزارة الخارجية في مهمة "التسويق" ويمكن أن تفشل. هذا يعود إلى الواقعية السياسية السائدة في العلاقات الدولية. ولكن لا يمكن لدولة أن تبني سياسة خارجية على مسائل تثير الخلاف في مجتمعها.

كل فشل في السياسة الخارجية سببه ليس تواطؤ المجتمع الدولي ولا أيّة مؤامرات متخيّلة، بل هو ناتج، بشكل أساسي، عن فشل اللبنانيين في بناء دولتهم وعجزهم عن الاتفاق على تصوّر مشترك لمستقبل لبنان واللبنانيين. ديبلوماسية "ترقيع" الصيغة لم تعد مجدية فالصيغة اهترأت وما عاد من الممكن ترميمها إلا بميثاق وطني جديد.

منشور في www.almodon.com في 22/7/2013

البتر المستدام

أقل ما يُقال عن التعدّي على الشاب ربيع الأحمد، إبن بلدة حرار العكارية، إنه مرعب. مرعب ما يختزنه قطع عضوه التناسلي من عنف وثقافة إلغائية وصلت إلى حد الاستئصال. ولكن أرعب ما فيه هو أنه فعل غير منعزل عن مسار إلغائي بات يحدّد حركة الإجتماع اللبناني.

رمزياً، يحيل العنف المختزن في ما فعلته العائلة البيصورية إلى إرادة استئصال أيّة علاقة قائمة مع "الآخر". ليس العضو التناسلي كعضو، هو المستهدف في هذه الجريمة بل هي العلاقة التي يرمز إليها العضو. على المستوى المادي هي جريمة استثنائية ببشاعتها، ولكن على المستوى الرمزي تتقاطع مع جرائم كثيرة يرتكبها اللبنانيون بحق بعضهم البعض وإن كانوا يغلفونها بكلام مزخرف أو يمررونها بطريقة شبه مخفيّة.

اقتصار الحديث عن جريمة بيصور يبعد أنظارنا عن السياق الكبير الذي تندرج فيه. هو زمن البتر الذي وصلنا إليه كلبنانيين متنوّعين. كل صلة عابرة لحدود مجتمعات التنوّع اللبناني شبه المنعزلة باتت مهددة بالبتر. الأمثلة أكثر من أن تحصى، والمشتركون فيها يتوزّعون على كافة الطوائف اللبنانية. لا فضل لطائفة على أخرى إلا بطريقة البتر.

تتعدد الأشكال وبتر الصلات بين اللبنانيين المختلفين واحد. عندما وقع الاعتداء على الشيخين في منطقة الخندق الغميق كانت الحادثة مؤشراً على الدرك الذي وصلت إليه الصلات بين السنّة والشيعة والتي ما عادت تتحمل مروراً آمناً للسنّة (أقلّه للكثافة السنّية معبراً عنها بمظهر اللحية والشاربين المحفوفين) في الأحياء الشعبية الشيعية. وفي المقابل كان هجر بعض أصحاب المصالح والسكان الشيعة لمنطقة الطريق الجديدة بسبب تعديات تعرّضوا لها مؤشراً على المأساة نفسها في المقلب الآخر.

كلّما دارت اشتباكات في طرابلس يستغل بعض الغلاة المناسبة ويقومون بحرق محلات العلويين في قلب المدينة. ليس هذا سوى بتر للعلاقة التي تقوم بين أبناء الطائفتين السنّية والعلوية في عاصمة الشمال.

البتّارون يطوفون بحرية في كلّ البيئات الطائفية اللبنانية. أحد الكتاب اعتبر أن قرية علما الشعب الجنوبية الحدودية انضمت إلى "لائحة الشرف" حين رفض مخاتيرها توقيع علم وخبر لنقل ملكية قطعة صغيرة من الأرض لا تتعدى مساحتها ثلاثة دونمات من أحد أبنائها إلى "غريب". ولخصت صحافية واقع "أراضي المسيحيين" بالتالي: "مثلما باع يهوذا السيد المسيح بقبلة وحفنة من الدراهم، هكذا يفعل المسيحيون اليوم بأراضيهم... بقبلة الإستغناء ورزمة من العملة الخضراء".

إنه مديح البتر في ثقافتنا المأزومة. وهو ليس ثقافة شعبية فقط بل يجد تعبيرات عنه في كلام السياسيين. فالنائب بطرس حرب اقترح قانوناً يمنع بيع الأراضي بين أبناء الطوائف اللبنانية المختلفة. وزميله سامي الجميّل قال مرّة إن بيع المسيحيين لأراض واقعة في منطقة الشوف وعاليه للبنانيين شيعة يعتبر تعدّياً على "مناطقنا وتاريخنا وهويتنا وأرضنا وشهدائنا ونضالنا، ويجب أن نواجههم". ومن جانبه أيضاً، دعا إلى إقرار قانون "يهدف إلى الحد من عملية بيع الأراضي التي تحصل بشكل همجي". الجميّل غلّف مقاصده بخدعة من خلال استبداله كلمة الشيعة بحزب الله. أراد تلطيف مديحه للبتر بغلاف سياسي ـ استراتيجي.

ولكن بلديات الحدث وكفرشيما، حين ترفض تسجيل شقة سكنية يشتريها لبناني شيعي أصدق في ممارستها من النائب الشاب. كذلك الأمر بالنسبة لـ"لجنة المتابعة في القبيات" التي تضم ممثلين عن القوى السياسية في البلدة حين ندّدت "بالعمل المشين" الذي أقدم عليه أحد أبناء البلدة ببيعه أرضه "بطريقة مخادعة و سرّية"، واعتبرت أنّ كل محاولة لشراء أرض من القبيات هو "تعدّ على القبيات وأهلها".

صار كل اختلاط بين اللبنانيين يقع في دائرة المهدد بالبتر.  أمام هذا الواقع، هل نقتنع بكلام رئيس بلدية بيصور حين قال "إن الجريمة فردية" وليس لها أيّة تداعيات طائفية؟ وهل نأمن لاعتبار الحزب التقدمي الإشتراكي أن ما وقع في بيصور هو "مسألة شخصيّة"؟


أصبح ملحاً فتح ملف العلاقات بين اللبنانيين بشكل صريح، وإيقاف المهزلة التي تطلّ علينا بجرائم وبشاعات مختلفة. ما يحصل في لبنان "بالمفرّق" يقضي "بالجملة" على الصلات القليلة الباقية بين اللبنانيين.

منشور في www.almodon.com في 19/7/2013

الاثنين، 3 يونيو 2013

تنافس على إرث الحرب

فجأة، تذكرت القوى السياسية المسيحية وجود مقاتلين قدامى وراحت تسعى إلى كسب ودّهم. قبلها وبعدها كانت تسابق بعضها بعضاً على نسب بطولات الحرب إليها، من خلال إعلائها صور "الشهداء" الذين قضوا أثناءها. هو التنافس المسيحي على قسمة إرث الحرب.

استقطاب مقاتل سابق يختلف عن استقطاب مواطن عادي. هو استقطاب للتاريخ، وبالتحديد لتاريخ المشاركة المسيحية في الحرب. وهو محاولة لمدّ غطاء شرعية الماضي "البطولي" على الحاضر "المحبط". أما الحديث عن بطولات "الشهداء" وتاريخ معاركهم الناصع، فالهدف منه الإيحاء بأن سياسيي اليوم هم استمرار لمقاتلي الأمس. وإذا ما افترضنا أن السياسيين يعرضون ما يطلبه الجمهور فإن كل شيء يشهد على أن بعض المسيحيين يتوقون إلى الزمن القديم.


"مَن واجه حرباً بحجم حرب زحلة والأشرفية وكلّ ما حصل خلال الحرب في لبنان، ومن اجتاز الجرد من جهة الى جهة... لن تُثنيه بعض الرصاصات"، قال رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية سمير جعجع مصوّراً نفسه كبطل لا يُقهر. هذا البطل هو حفيد أبطال يطلّون بذكراهم من الأزمنة الغابرة. "انطلاقة القوات لم تبدأ اليوم، ولا حتى في العام 1975، بل بدأت مع أجدادنا الذين اكتشفوا باكراً، أن الخنوع والانبطاح أمام الظالم، لا يزيده إلا ظلماً وتجبراً وتعجرفاً"، روى في احتفال الحزب بتنسيب دفعة من الأعضاء. إنها القوات اللبنانية التي تجسّد بطولات الشهداء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. "القوات لا يمكن أن تكون إلا على صورة بشير الجميل وآلاف آلاف الشهداء، مثل حد السيف ثابتة"، يؤكد جعجع. 

انتبه حزب الكتائب إلى مردودية خطاب الدفاع عن الماضي. قام بدايةً بتكريم قادة وعناصر "وحدات مغاوير المقاومة اللبنانية"، في حضور أحد قادتها إبراهيم حداد (بوب حداد) وعدد كبير من قادة وعناصر وحدة المغاوير. "إن مقاومة حزب الكتائب ومقاومة المغاوير، كانت دوماً معركة دفاع عن وجودنا ولن نسمح لأحد بأن يشوهها بأيّ شكل من الأشكال"، قال النائب سامي الجميّل في المناسبة، مضيفاً أن "أي مساس بذكرى المقاومة وبتضحياتها ونضالها، هو إفشال لأي محاولة عيش مشترك بين اللبنانيين".

بعدها بفترة وجيزة، استقبل مقر القيادة في بكفيا مسعود الأشقر (بوسي) لإلقاء محاضرة عن "المقاومة المسيحية". ثم ما كان من الحزب إلا أن أقام احتفالاً تكريمياً لـ150 عنصراً من قادة وأفراد فرقة الكومندوس والـ"ب.ج". كان من ضمن المكرمين: فؤاد ابو ناضر، سامي خويري، جورج قزي، جوسلين خويري، فادي خويري، مارون مشعلاني، جورج رشدان، مسعود مراد، جورج روحانا، جورج فوريدوس. في كلمته، أكد القائد السابق للقوات اللبنانية فؤاد أبو ناضر "أن الأهم في ما يحصل اليوم هو المحافظة على الذاكرة والتاريخ الذي نفخر به ". ما هو هذا التاريخ؟ "حزب الكتائب لم يخض إلا المعارك الصحيحة".

قرر الكتائبيون العودة إلى الماضي والإنطلاق منه. مؤخراً اختير للقاعة التي أسست في مقرّ النائب سامي الجميّل في بكفيا، بهدف استقبال الوفود الشعبية، إسم الشهيد أمين أسود. أسود هو شهيد من فرقة الـ"ب.ج" وتوفي عن عمر 18 سنة في إحدى معارك الأسواق التجارية.

وقبل حوالى سنة من هذه التكريمات، مشى النائب نديم الجميّل مع عدد من الرفاق من منطقة الزعرور إلى زحلة وهم يرتدون اللباس العسكري. أتى ذلك في مناسبة ذكرى شهداء حصار زحلة في نيسان 1981.

التيار الوطني الحرّ لا يستطيع ممارسة هذه اللعبة كما منافسيه المسيحيين. فبطولات الجنرال سطرها باسم الجيش اللبناني ولا يمكن ردّها إلى المجتمع المسيحي حصراً. ولكن ميشال عون  يصرّ على "أن نراجع معاً أهم المحطات، كي تبقى في ذاكرتنا الجماعية". يعدد "الأهداف التي من أجلها قاتلنا وحمل كل منا صليبه، مدة أربعة وعشرين عاماً" ومن ضمنها أعمال "زعران" ميليشيا القوات.

النجم المسيحي المنبعث من الماضي في الآونة الأخيرة هو بدون منازع حنا العتيق (الحنون)، القائد السابق لفرقة الصدم في القوات اللبنانية. بسلاح شرعية الماضي أراد أن ينافس زعامة معراب مؤسساً "الحركة التصحيحية" وساعياً إلى تجميع القواتيين القدامى. عتبه الأساسي، غير الشخصي، على جعجع هو أنه وافق على اتفاق الطائف. برأي الحنون، "المقاومة إما أن تنتصر وإما أن تهزم"، والطائف لم يكن نصراً. حاضراً، يرى أن على القوات لعب أدوار متعددة تبدأ بالاجتماعي وتمر بالرعائي وبالحث على "التكاثر" في لبنان وصولاً إلى "الدور الأمني في البلد" في حال توقفت المؤسسات الأمنية عن لعب دورها.

في تقريره المفصل إلى البابا فرنسيس عن أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط، اعتبر البطريرك مار بشارة الراعي أن "مسيحيي الشرق لديهم دور كبير لتأديته في سبيل ضمان الاعتدال الإسلامي". معه حق، ولكنه يجب أن ينتبه إلى أن المسيحيين ينحون شيئاً فشيئاً نحو اللا اعتدال، وحديثه يبدو من خارج الواقع المسيحي المُعاش.

نشر في www.almodon.com  في 2/6/2013

الخميس، 30 مايو 2013

The good, the bad and the ugly - 2

اليساري الجيّد هو ذاك الذي استطاع تشرّب مقاصد النظريات اليسارية (في الإسلام يتحدث الفقهاء عن "مقاصد الشريعة"). وعليه، أهمل التفاصيل المرتبطة بظروف سابقة وانصب اهتمامه على كيفية تحقيق الصالح العام لأغلبية الناس.



اليساري السيء هو ذاك الذي يتمسك بحرفية النصوص (في الإسلام يتحدث الفقهاء عن "المعنى الظاهر للنص") فيربط "نضاله" بأفكار ثانوية غبية. ينطلق مثلاً من حديث "الدين أفيون الشعوب" ليمجّد أنظمة ديكتاتورية بسبب إباحتها لشرب الكحول!



اليساري البشع هو ذاك الذي يمارس لعبة تحوير النصوص اليسارية لتخدم السلطات القائمة (في الإسلام يتحدث الفقهاء عن "تفسير النص" وعن "تأويل النص"). هذا النوع من اليساريين، وبهدف الحفاظ على مكتسبات تمنحه إيّاها السلطة، يضرب بعرض الحائط التحليلات التي تشرّح "دور الإيديولوجيا"، ويلعب دور "فقهاء السلطة" فيهرع إلى استلال "أحاديث" من سلّة النظريات اليسارية ويكيّفها في خدمة استراتيجيات السلطة.

ملاحظة: هذا التحليل لليسار يستخدم مصطلحات إسلامية بهدف فك الارتباط بين العبارات والمعنى. معنى العبارة يحدده السياق. على أمل أن يفهم اليساريون ما أقصده.


The good, the bad and the ugly (1)


الإنسان الجيد هو الذي يتضامن مع كل ضحية تسقط بفعل ممارسات نظام ديكتاتوري او بفعل ممارسات الإرهابيين أو بفعل قسوة الحياة او الظروف الطبيعية... التضامن مع الضحية هو إيقاظ للإيثاري في شخصيتنا الإنسانية.

الإنسان السيء هو الذي يسخر من الضحايا او لا يبدي تضامنه معهم.

الإنسان البشع هو الذي ينظر لسحب صفة الضحية من الضحية وهو أيضا الذي يسخر من المتضامنين معها (حتى ولو تستر ذلك وراء تبرير: لماذا هذه الضحية بالذات وليست تلك الضحية هناك؟).

الأربعاء، 29 مايو 2013

استراحة المقاتلين


عودة السياسيين، في سجالاتهم، إلى الماضي، ماضي الاقتتال الأهلي لا ماضي العيش المشترك، يكشف لنا عن المعنى المختزن داخل مفهوم السلم الأهلي: إنه استراحة المقاتلين!
 
متابعة خطاب القوى السياسية اللبنانية يولّد الخوف. جلّ السجالات التي كانت تدور معارك الحرب الأهلية على هديها لا تزال حاضرة. في أوقات الأزمات، وهي الأوقات التي يفصح خلالها كل طرف عن مكنوناته بصدق، تقفز صراعات الماضي إلى دائرة الضوء. حتى أيقونة "سلمنا الأهلي"، أي اتفاق الطائف، يبدو بريقها مصطنعاً ولا يعدو كونه من لزوم استمرار الهدنة الهشة بين اللبنانيين.
 
بعد موافقة القوات اللبنانية على القانون المختلط، استيقظت شياطين ماضي المسيحيين. هبّ الجنرال ميشال عون يردد خطاب المظلومية وقال: "التنازل الذي حصل في الطائف تكرر اليوم بدرجة أعلى". لم ينتظر رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلا ساعات ليردّ الهجوم بالتاريخ. قال: "إننا نتعرّض لحرب إلغاء جديدة لعزل القوات شبيهة بالـ1989".

في صراعهما على النفوذ في البيئة المسيحية لا يستحضر العونيون والقواتيون مراحل تعاون رموزهما على "الآخرين". هنا يصير "الآخر" المنافس داخل الطائفة. كلّ المحرّمات تسقط أمام غاية شدّ عصب القاعدة الشعبية. "كنا أمام طائف ثانٍ والواقعة السياسية تسجلت، ولا يمكن محوها من الذاكرة المسيحية"، قال الوزير جبران باسيل، مذكراً المسيحيين بأن الجنرال كان رافضاً لاتفاق الطائف الذي ألحق الغبن بهم وكاد أن يعيد إليهم أمجادهم لو لم يخرج عليهم مارد جعجع من جديد. الدقة التاريخية غير مجدية في حالات كهذه. فالموضوعية لا تثير الغرائز.
 
التناقض جزء من أدوات لعبة تثمير الماضي في صراعات الحاضر. باسيل نفسه عاد وقال إن "المناصفة لم نتنازل عنها أيام القصف وفي اتفاق الطائف، لنتنازل عنها بالكلمة اليوم". الجنرال رفض الطائف أم أنتج بصموده المناصفة؟ لكل مقام مقال. فالتراشق بالماضي عليه أن يتأسس على ثنائية المظلومية والبطولة. "لم يدفعنا إلى الطائف سوى حرب التحرير"، ردّ النائب أنطوان زهرا. لعلّه قصد "حرب الإلغاء"،  فالقوات كانت حليفة قائد الجيش في حربه ضد السوريين وحلفائهم!
 
الإحالة إلى الماضي توقظ جراح اللبنانيين التي لم يسمح السياسيون لها بأن تندمل والنتيجة: كسب بعض الأصوات الإنتخابية على حساب السلم الأهلي. الموضوعان العزيزان على قلب العونيين هما خيانة القوات وحرب الجبل. القوات لا تستطيع سوى استحضار حربها ضد عون.
 
يقول باسيل إن القانون المختلط هو "حرب جبل جديدة". ويقول الجنرال أن "من يتمسكون بقانون الستين... هم انفسهم من قاموا بمجازر الجبل، وهم من هجروا الناس واحتلوا أملاكهم". وبعد أيام من كلامه هذا يصير من القابلين بهذا القانون. يتكل الجنرال على ذاكرة اللبنانيين العاجزة عن تسجيل لغو السياسيين.
 
ليس الجنرال وحده من يستخدم شياطين الحرب الأهلية. الكل يقومون بذلك وإن كان يفوقهم من حيث الوتيرة. تارة يقول النائب السابق فارس سعيد للجنرال: "حدودك المدفون" قارئاً في خريطة حربية يحتفظ بها منذ عام 1989. وتارة أخرى يصف النائب وليد جنبلاط المسيحيين بأنهم "جنس عاطل" مذكراً بما قاله والده للرئيس السوري حافظ الأسد عام 1976.
 
يريد اللواء جميل السيد انتقاد جنبلاط، فيقول له إن "زمن أبو سعيد العنترازي وأبو هيثم والكاوبوي وغيرهم من عصابات الترهيب والاغتيال قد ولّى إلى غير رجعة". كل شيء يذكرنا بأن الماضي لا يزال حاضراً وبقوة. حركة أمل تقسم التاريخ إلى ما قبل إسقاط اتفاق 17 أيار وما بعده. حزب الله يؤسس التاريخ على ثنائية "قبل الـ82 وبعد الـ82" الشهيرة. النائب نواف الموسوي يتلقف هذه الثنائية ويهاجم "المجازفين الأبديين" الذين يرغبون في قهر بقية الطوائف. يعترض النائب سامي الجميّل على هذه القسمة ويقول: "نحن المقاومة اللبنانية، نحن بشير الجميل ونحن من حملنا السلاح وإشترينا السلاح".
 
التراشق بالماضي لا يحصل فقط بين الخصوم. كثيراً ما يتبادل الحلفاء الرسائل بواسطة هذا السلاح. النائب إيلي ماروني ردّ على اعتبار النائب خالد الضاهر "أن زحلة لم تقدم شهداء"، بالقول: "زحلة قدمت 655 شهيداً، وعندما كنا نحارب السوري كان الضاهر حليفه".  
في إحدى المناسبات، كان مرشح كسرواني للإنتخابات النيابية الحالية ينقل خبرته في التكتيك السياسي إلى بعض المجتمعين. أبلغهم خلاصة خبرته السياسية التي  تفيد بأن كسب الشعبية مسألة بسيطة. قال: "يكفي أن تذكر أهالي جبيل وكسروان بممارسات أحمد الخطيب (قائد جيش لبنان العربي) لكي يدعمونك". هذه هي ألف باء العمل السياسي في لبنان!
 
يقول الخطاب اللبناني الرسمي أن "وثيقة الوفاق الوطني" أرست السلم الأهلي في لبنان. ولكن... كل المتحاربين القدامى يتمسكون بكل المقولات التي خاضوا الحرب على أساسها. فإلى متى سيصمد سلمنا الأهلي؟

منشور في www.almodon.com في 29/5/2013

سويسرا الشرق الكتائبية


هل أراد حزب الكتائب حين طرح شعار "حياد لبنان" العودة إلى حكاية "سويسرا الشرق"؟ يأخذ هذا الشعار حين تطرحه قوة سياسية كالكتائب أبعاداً تُغري بقراءة الحاضر على ضوء الماضي. يتغلّف بنوع من الغموض المنبعث من ارتباط ماضي الحزب به، ومن تلك الفلسفة السياسية التي كانت تنطوي على أبعاد تنشد فصل لبنان عن مشاكل محيطه العربي. ولكن الماضي انقضى وتغيّرت الظروف. فماذا الآن؟
 
كل القصة بدأت مع إعلان النائب سامي الجميّل أن حزب الكتائب قرر التقدّم "بقانون لإدخال فقرة في مقدمة الدستور تتبنى بشكل صريح حياد لبنان عمّا يجري من حوله". المضمون الغامض لهذه الفقرة، وإمكانية قراءتها بأشكال مختلفة، أظهرت حزب الكتائب كقوّة سياسية طامحة إلى وضع بصمة جديدة على الصيغة اللبنانية.


في أعقاب الجولات التي قام بها الفريق الكتائبي على القوى السياسية، خرجت تعليقات تزيد غموضاً على غموض الطرح الكتائبي. ظهرت المسألة وكأن النقاش الذي رافق نشأة الكيان اللبناني، يُستعاد من جديد. تقمّص كثيرون دور كاظم الصلح وقدّموا تصوّراتهم عن "مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان"!
 
في عين التينة، نبش رئيس مجلس النواب نبيه بري موقفاً للبطريرك الماروني بولس بطرس المعوشي، يعود إلى العام 1958، ويعتبر فيه أن "الحياد الذي نريده لا يمكن أن نستقي مبادئه من الحياد النمساوي أو أن تنعكس عليه إرادة الأجانب، وهو في كل حال يجب أن يتضمن استثناءين: أولهما خاص باسرائيل وثانيهما خاص بالبلاد العربية، إذ لا يجوز أن نكون محايدين بالنسبة الى البلاد العربية التي نحن جزء منها". ظهرت المسألة وكأن المطلوب حياد لبنان في الصراع على جزر الفوكلاند!
 
كذلك، لفت النائب نواف الموسوي إلى "أن ثمة مقاربة يمكن اعتمادها تقوم أولاً على تحديد ماهية التهديدات التي يواجهها لبنان، وفي ضوء تحديدها يمكن أن نقترح أشكال مواجهتها وآليتها". أراد نائب حزب الله وضع المسعى الكتائبي في ذات المتاهة حيث تقع معضلة "الاستراتيجية الدفاعية". تضامنت القوى السياسية الشيعية مع الغموض الكتائبي ولم يقل أحد منهم إن المطروح ليس سوى "شيء رأيناه".
 
في الحقيقة، لا تزيد المبادرة الكتائبية عن كونها ترجمة محلية لتوجهات دولية تسعى إلى تحييد لبنان عن الصراع الدائر في سوريا وبالأخص إلى إيقاف الدور العسكري المستجدّ لحزب الله هناك. قبل أيام فقط من إطلاق الفكرة، قام المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي بجولة على السياسيين ونبههم إلى "أهمية المحافظة على سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية" وذكّرهم بـ"إعلان بعبدا".
 
بعبدا ليست بعيدة عن المبدأ الذي بنى عليه حزب الكتائب مبادرته. فرئيس الجمهورية ميشال سليمان يعتبر نفسه راعي "إعلان بعبدا" وحارسه الأخلاقي. لذلك، كان ولا يزال يمتعض من كل خرق لما اتفقت عليه هيئة الحوار الوطني في حزيران الفائت.
 
برعاية "حامي الدستور"، اتفق السياسيون على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة وتجنيبه الانعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب إلتزام قرارات الشرعيّة الدوليّة والإجماع العربي والقضيّة الفلسطينيّة المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم". صيغت هذه الفقرة على مقاس الأزمة السورية.
 
ولكن الوقائع التي تلت هذا التفاهم أثبتت أن أكثر من طرف جنح عن محتواه وعرض عضلاته في الساحة السورية. وأمام النكث بالمواثيق، يبدو سليمان وكأنه فقد الثقة في قدرته على إحداث تغيير سياسي يحفظ السلم الأهلي في لبنان. لم يعد يمتلك سوى التذكير المتكرر بأن "ما يحمي لبنان هو إعلان بعبدا". بقية تصاريحه لا تعدو سوى كونها كرّاسات شرح وتذكير بما جرى التوافق عليه.
 
إذاً، وفي المضمون، لا جديد في المسعى الكتائبي خاصةً إذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن تحويل "النأي بالنفس" أو "الحياد" إلى مبدأ دستوري عام لا يمكن أن يُبصر النور في دولة تقوم التوازنات السياسية داخلها على علاقة مركّبة بين الداخل والخارج. اللهم إلا إذا توافق الجميع على مبدأ دستوري جديد بغية خرقه إلى جانب غيره من فقرات القانون الأسمى.
 
ما يسعى إليه الحزب المسيحي العريق، سبق أن اتفق عليه اللبنانيون ولكن أكثر من طرف لم يحترم التزاماته. أما الباقي، فهو من عدّة العمل الكتائبية الهادفة إلى صناعة صورة لمّاعة للحزب في الأوساط المسيحية.
منشور في www.almodon.com  في 19/5/2013

آخر أيام العودة


في ظل متغيّرات إقليمية كثيرة تأتي ذكرى النكبة هذا العام. اختلف المشهد السياسي برمته. في اللحظة الراهنة، يهيمن البعد الوطني على أولويات الشعوب العربية إلى حد بعيد. هبط سعر أسهم استغلال القضية الفلسطينية في سياسات الأنظمة الحاكمة. حلفاء الأمس تفرّقوا والثابت الوحيد أن أفق حلّ القضية الفلسطينية لا يزال بعيداً.

قبل عامين، جمعت الفعاليات المقامة بمناسبة الذكرى الثالثة والستين للنكبة،  مدينة القدس وقطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا. أحكم المدنيون الفلسطينيون الطوق حول اسرائيل بـ"مسيرات العودة". لم يكن المشهد انعكاساً لتضامن عربي وُلد بعد سبات، بل كان، ربما، آخر استثمار سياسي يدخله النظام السوري وحلفاؤه برصيد من دماء فلسطينيي الشتات.


على منحدر تلة مارون الرأس في جنوب لبنان، كانت امرأة مسنّة تنزل بصعوبة قاصدة الاقتراب لأكثر مدى ممكن من تراب بلادها المحرّم عليها. لا أحد يستطيع معرفة الأحلام التي كانت تصنعها بخطواتها. مضى عامان على هذا المشهد. لن تستعيد حلمها إيّاه هذا العام.

في أحد الباصات التي أقلّت أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى مشارف بلدهم، كان الزمن يمرّ بطيئاً. قرأ: "50 كلم إلى فلسطين". بعد وقت طويل بمقاييس صبره قرأ "10 كلم إلى فلسطين" ثم قرأ 5، وأخيراً قرأ: "1 كلم إلى فلسطين". لم يستطع الاحتمال. نظر إلى صديقه وهرعا بالركض في اتجاه الشريط الشائك الذي يفصل مارون الرأس عن وطنهم. حشد كبير لحق بهم. بدأ الجنود الإسرائيليون بإطلاق الرصاص. 12 شهيدا وأكثر من مئة جريح سقطوا تحت شعار "الشعب يريد العودة إلى فلسطين".

إلى الجولان السوري، تم تسيير مسيرة مشابهة. بعد 40 سنة من إحكام إقفال هذه الجبهة، تمكن مدنيون عزّل إلا من الأحلام من تخطي الحدود والوصول إلى قرية مجدل شمس. لم يستمر زحفهم بطبيعة الحال. عادوا إلى مخيماتهم حاملين أربعة قتلى وحوالى مئتي جريح.

أمام فداحة ما حصل، أعلنت حركة حماس، من مكاتبها القائمة في دمشق أن الأحداث التي شهدها داخل فلسطين وحدودها "هي نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي".

في خلفية المشهد، كان ثمة من يبتسم ويقول في سرّه: نجحت. لم يكن لأحلام الفلسطينيين أن تنزف في ذلك النهار لولا محاولة النظام السوري وحلفائه في لبنان إبعاد الكاميرات عن الأحداث السورية. لم يكن قد مضى على بدء الثورة السورية إلا شهرين، حين استلّ شعار "الشعب يريد العودة إلى فلسطين" من حقيبة النسيان وأخرج كأرنب الساحر للتعمية على شعار "الشعب السوري يريد الحرية".

نجحوا. نجحوا ليوم واحد فقط. لم يكن صدفة إحياء "مسيرة عودة" بعد 11 عاماً من تحرير الجنوب اللبناني، أي بعد 11 عام من إمكانية الوقوف على إحدى هضاب جبل عامل المشرفة على فلسطين.

لم تكن الحدود مع فلسطين المكان الوحيد للأحداث الكبيرة في ذلك النهار الدامي. فقد اقتحم الجيش السوري مدينة تلكلخ القريبة من حدود لبنان الشمالية موقعاً سبعة قتلى ومتسبباً بنزوح عدد كبير من أبناء المدينة إلى الأراضي اللبنانية. في ذلك اليوم رُسّمت الحدود اللبنانية جنوباً وشمالاً بدماء النازحين.

سنتان لا أكثر كانتا كفيلتين بتغيير المشهد الإقليمي رأساً على عقب. في سوريا كانت ثورة سلمية. كان المتظاهرون يواجهون البندقية بصدورهم العارية. وكان النظام يعتقل المعارضين بتهمة مخالفة قانون التظاهر! في ذكرى النكبة نفسها، تلك التي شهدت كل هذه الأحداث، أفرج بكفالة عن مخالف قانون التظاهر رياض سيف بعد 9 أيام قضاها معتقلاً.

بعد سنتين، اختلف المشهد تماماً. "نقطة التحوّل" التي تحدثت عنها حماس كانت هجر قيادتها لدمشق، هرباً من رائحة دماء الأبرياء وتغييرها تحالفاتها "القسرية" وعودتها إلى رحم الحركة الأم المنتصرة في مصر على حدود قطاع غزة، وكانت قمعت، قبل 8 أيام من الذكرى الخامسة والستين للنكبة، تظاهرة صغيرة نظمتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بهدف إدانة الغارات الاسرائيلية على سوريا. 

اليوم، تأتي ذكرى النكبة متزامنة مع النكبة التي حلّت بسوريا. هذه السنة لن يسيّر النظام السوري الحافلات إلى عين التينة. فلسطينيو اليرموك ينزفون داخل مخيمهم ولا حاجة إلى أخذهم لمواجهة النار الاسرائيلية. هذه السنة لن يضع حزب الله ثقله خلف "اللجان المنظمة" من أجل تسيير الحافلات إلى مارون الرأس. حافلات حزب الله تتوجه شمالاً، إلى دمشق وريف القصير. وكل ذلك بحجة أولوية القضية الفلسطينية.

مستخدمو القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، يسمّونها "بوصلة" ويقولون إنها تحدد صواب وخطأ المواقف السياسية. "البوصلة" تقول اليوم: "طريق القدس تمرّ من القصير". غريبة هذه البوصلة التي لطالما حطمت آمال الشعوب العربية على إشارات إبرتها.

منشور في www.almodon.com في 15/5/2013
الصورة بعدسة زهراء مرتضى

غزو سوريا


"أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا". بهذه الجملة المستلّة من خطبة شهيرة للإمام علي بن أبي طالب، ختم شيخ إحدى القرى الشيعية الجنوبية كلامه الهادف إلى تجييش الحشد المجتمع في النادي الحسيني على إيقاع تدخل حزب الله في سوريا.
 
قبل وقت ليس بطويل، كان مناصرو حزب الله يضعون الحديث عن تدخل الحزب العسكري في الداخل السوري في خانة الإفتراء المغرض. مع تزايد حالات وصول جثامين القتلى إلى قراهم اختلف الوضع. صُدم أبناء هذه الطائفة. ولاحتواء صدمتهم، كان لا بد من خطاب تجييشي. لبنانيو ريف القصير قصة غير جذابة. وحدها السيدة زينب، بما تمثله في الوجدان الشيعي، يمكنها أن تنقذ الموقف.
 
يستعيد حزب الله لغة مأساة عاشوراء القابعة في وجدان الشيعة ويسقطها على مسألة تدخله في سوريا. في بيروت وضواحيها، تشهد الأحياء الشعبية على هذا الخطاب. "كلنا عباسك يا زينب"، كتب أسفل صورة ربيع فارس المعلقة على زجاج مقهى شعبي صغير قائم قرب مسجد القائم الذي يرتاده بكثرة أنصار الحزب.
على أوتوستراد الشهيد هادي نصر الله، تقوم المعاهد الصغيرة بنعي طلابها. "إدارة وطلاب" معاهد الآفاق، المعروفة باستقبالها الطلاب الفقراء، رفعت لافتة تنعي مهدي نزيه عباس، ابن قرية كوثرية السياد. بعد أمتار قليلة قامت "إدارة وطلاب" معاهد المسار بالأمر نفسه ناعية حيدر محمد صوفان. ولكن، تأخر رفع اللافتة الثانية ثلاثة أشهر عن تاريخ التشييع! فمع انتقال حزب الله إلى مرحلة الحديث العلني عن مشاركته في الحرب السورية، تغيّرت الأمور.
 
فقط في الأحياء الشعبية يمكن للمرء أن يرى صور من سقطوا في الحرب السورية. في زقاق البلاط، تم تركيب ماكينة لصنع القهوة في خلفيته "فان" معطّل، فتحوّل مع بعض الكراسي المصطفة حوله إلى مقهى شعبي صغير. هناك ترى صورة لأحد القتلى وتقرأ في أسفلها: "سنثأر يا ثائر".
 
"ثائر" هو الاسم الحزبي للشاب الصغير حسن نمر الشرتوني، إبن قرية ميس الجبل الجنوبية. في التشييع الحاشد الذي أقيم له قبل مدّة كان المجتمعون غاضبين. من مكبرات الصوت قيل لهم: "ثأركم ليس هنا. ثأركم هناك". أيام قليلة كانت كافية لتعليق صورة كبيرة له على مدخل قريته،  كتب عليها عنوان خطاب حزب الله التبريري لتدخلّه: "لن تسبى (السيدة زينب) مرتين".
 
في القرى، لا شيء يشير إلى انتماء القتلى الطبقي. هنا الكل أولاد القرية. المنبر الأساسي الذي يخاطب حزب الله الجموع من خلاله هو النوادي الحسينية في ذكرى مرور أسبوع أو أربعين يوماً على وفاة أحد أبناء القرية.
 
بعد نبش قبر الصحابي حجر بن عديّ، روى شيخ إحدى القرى للمشاركين في واجب العزاء قصة "صديق الإمام علي". قال لهم أن معاوية قضى بإعدامه وابنه همّام بسبب موالاته للإمام علي وأخبرهم أنه طلب من الجلاد تنفيذ الحكم بابنه قبله كي لا يرتدّ عن تأييده للحق. "أراد أن يضمن له آخرته"، قال الشيخ وترك المنبر.
 
إلى جانب خطاب الدفاع عن مقام السيّدة زينب، تكثر الشائعات عن اكتشاف خلايا سورية مسلّحة نائمة في قرى الجنوب. لا يمكن الفصل في صحّة هذه الشائعات التي تشترك جميعها في الخاتمة السعيدة: "حزب الله اكتشف الأمر والله ستر".

اللافت في الجنوب، هو ما ينقل عن مقاتلي حزب الله العائدين من سوريا. أحدهم ركّز أمام أصدقاء زاروه على كثرة عدد مقاتلي المعارضة وقال لهم: "مستحيل يخلصوا". آخر قال: "ليكن الله في عون الشعب السوري. لا يعرفون من أين تتساقط عليهم القذائف".
 
"الحجر لا يمثل فقط حجراً. ترابك هو كيانك وعزتك في الدنيا وسلامتك في الآخرة". بهذه الجملة مهّد شيخ إحدى القرى لانتقاله في خطبته إلى الحديث عن آخر مستجدات الوضع السوري بما فيها تدخل حزب الله العلني. "الاعتداء على حجر من مقامات الأولياء هو اعتداء على كل إنسان منّا. مع كل حجر يقطعون عضواً من اعضائنا"، قال الشيخ وختم حديثه: "نحن أمة أنبياؤها مقاتلون".
 
لغة كربلاء، ليست فقط لغة يستخدمها حزب الله لتبرير تدخله. يستخدم مؤيدو الثورة هذه اللغة أيضاً. برأيهم ينصرون الظالم على المظلوم مهتدين بالإمام الحسين بن علي. لذلك أضاف حزب الله نقطه هامة على خطابه. وضع كل مقاتلي الثورة السورية في خانة التكفيريين. هي "كذبة صغيرة" ولكن مفعولها يكبر أكثر فأكثر بين جمهوره، وخاصة مع بعض ما يرشح من أفعال عن بعض الألوية المقاتلة

منشور في www.almodon.com في 9/5/2013