في ظل متغيّرات إقليمية
كثيرة تأتي ذكرى النكبة هذا العام. اختلف المشهد السياسي برمته. في اللحظة
الراهنة، يهيمن البعد الوطني على أولويات الشعوب العربية إلى حد بعيد. هبط سعر
أسهم استغلال القضية الفلسطينية في سياسات الأنظمة الحاكمة. حلفاء الأمس تفرّقوا
والثابت الوحيد أن أفق حلّ القضية الفلسطينية لا يزال بعيداً.
قبل عامين، جمعت
الفعاليات المقامة بمناسبة الذكرى الثالثة والستين للنكبة، مدينة القدس وقطاع
غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا. أحكم المدنيون الفلسطينيون الطوق حول اسرائيل
بـ"مسيرات العودة". لم يكن المشهد انعكاساً لتضامن عربي وُلد بعد سبات،
بل كان، ربما، آخر استثمار سياسي يدخله النظام السوري وحلفاؤه برصيد من دماء
فلسطينيي الشتات.
على منحدر تلة مارون
الرأس في جنوب لبنان، كانت امرأة مسنّة تنزل بصعوبة قاصدة الاقتراب لأكثر مدى ممكن
من تراب بلادها المحرّم عليها. لا أحد يستطيع معرفة الأحلام التي كانت تصنعها
بخطواتها. مضى عامان على هذا المشهد. لن تستعيد حلمها إيّاه هذا العام.
في أحد الباصات التي
أقلّت أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى مشارف بلدهم، كان الزمن يمرّ
بطيئاً. قرأ: "50 كلم إلى فلسطين". بعد وقت طويل بمقاييس صبره قرأ
"10 كلم إلى فلسطين" ثم قرأ 5، وأخيراً قرأ: "1 كلم إلى
فلسطين". لم يستطع الاحتمال. نظر إلى صديقه وهرعا بالركض في اتجاه الشريط
الشائك الذي يفصل مارون الرأس عن وطنهم. حشد كبير لحق بهم. بدأ الجنود
الإسرائيليون بإطلاق الرصاص. 12 شهيدا وأكثر من مئة جريح سقطوا تحت شعار
"الشعب يريد العودة إلى فلسطين".
إلى الجولان السوري، تم
تسيير مسيرة مشابهة. بعد 40 سنة من إحكام إقفال هذه الجبهة، تمكن مدنيون عزّل إلا
من الأحلام من تخطي الحدود والوصول إلى قرية مجدل شمس. لم يستمر زحفهم بطبيعة
الحال. عادوا إلى مخيماتهم حاملين أربعة قتلى وحوالى مئتي جريح.
أمام فداحة ما حصل،
أعلنت حركة حماس، من مكاتبها القائمة في دمشق أن الأحداث التي شهدها داخل فلسطين وحدودها
"هي نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي".
في خلفية المشهد، كان
ثمة من يبتسم ويقول في سرّه: نجحت. لم يكن لأحلام الفلسطينيين أن تنزف في ذلك
النهار لولا محاولة النظام السوري وحلفائه في لبنان إبعاد الكاميرات عن الأحداث
السورية. لم يكن قد مضى على بدء الثورة السورية إلا شهرين، حين استلّ شعار
"الشعب يريد العودة إلى فلسطين" من حقيبة النسيان وأخرج كأرنب الساحر
للتعمية على شعار "الشعب السوري يريد الحرية".
نجحوا. نجحوا ليوم واحد
فقط. لم يكن صدفة إحياء "مسيرة عودة" بعد 11 عاماً من تحرير الجنوب
اللبناني، أي بعد 11 عام من إمكانية الوقوف على إحدى هضاب جبل عامل المشرفة على
فلسطين.
لم تكن الحدود مع
فلسطين المكان الوحيد للأحداث الكبيرة في ذلك النهار الدامي. فقد اقتحم الجيش
السوري مدينة تلكلخ القريبة من حدود لبنان الشمالية موقعاً سبعة قتلى ومتسبباً
بنزوح عدد كبير من أبناء المدينة إلى الأراضي اللبنانية. في ذلك اليوم رُسّمت
الحدود اللبنانية جنوباً وشمالاً بدماء النازحين.
سنتان لا أكثر كانتا
كفيلتين بتغيير المشهد الإقليمي رأساً على عقب. في سوريا كانت ثورة سلمية. كان
المتظاهرون يواجهون البندقية بصدورهم العارية. وكان النظام يعتقل المعارضين بتهمة
مخالفة قانون التظاهر! في ذكرى النكبة نفسها، تلك التي شهدت كل هذه الأحداث، أفرج
بكفالة عن مخالف قانون التظاهر رياض سيف بعد 9 أيام قضاها معتقلاً.
بعد سنتين، اختلف
المشهد تماماً. "نقطة التحوّل" التي تحدثت عنها حماس كانت هجر قيادتها
لدمشق، هرباً من رائحة دماء الأبرياء وتغييرها تحالفاتها "القسرية"
وعودتها إلى رحم الحركة الأم المنتصرة في مصر على حدود قطاع غزة، وكانت قمعت، قبل
8 أيام من الذكرى الخامسة والستين للنكبة، تظاهرة صغيرة نظمتها الجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين بهدف إدانة الغارات الاسرائيلية على سوريا.
اليوم، تأتي ذكرى
النكبة متزامنة مع النكبة التي حلّت بسوريا. هذه السنة لن يسيّر النظام السوري
الحافلات إلى عين التينة. فلسطينيو اليرموك ينزفون داخل مخيمهم ولا حاجة إلى أخذهم
لمواجهة النار الاسرائيلية. هذه السنة لن يضع حزب الله ثقله خلف "اللجان
المنظمة" من أجل تسيير الحافلات إلى مارون الرأس. حافلات حزب الله تتوجه
شمالاً، إلى دمشق وريف القصير. وكل ذلك بحجة أولوية القضية الفلسطينية.
مستخدمو القضية
الفلسطينية في السنوات الأخيرة، يسمّونها "بوصلة" ويقولون إنها تحدد
صواب وخطأ المواقف السياسية. "البوصلة" تقول اليوم: "طريق القدس
تمرّ من القصير". غريبة هذه البوصلة التي لطالما حطمت آمال الشعوب العربية
على إشارات إبرتها.
الصورة بعدسة زهراء مرتضى
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق