صورة المدونة

صورة المدونة

الأربعاء، 29 مايو 2013

استراحة المقاتلين


عودة السياسيين، في سجالاتهم، إلى الماضي، ماضي الاقتتال الأهلي لا ماضي العيش المشترك، يكشف لنا عن المعنى المختزن داخل مفهوم السلم الأهلي: إنه استراحة المقاتلين!
 
متابعة خطاب القوى السياسية اللبنانية يولّد الخوف. جلّ السجالات التي كانت تدور معارك الحرب الأهلية على هديها لا تزال حاضرة. في أوقات الأزمات، وهي الأوقات التي يفصح خلالها كل طرف عن مكنوناته بصدق، تقفز صراعات الماضي إلى دائرة الضوء. حتى أيقونة "سلمنا الأهلي"، أي اتفاق الطائف، يبدو بريقها مصطنعاً ولا يعدو كونه من لزوم استمرار الهدنة الهشة بين اللبنانيين.
 
بعد موافقة القوات اللبنانية على القانون المختلط، استيقظت شياطين ماضي المسيحيين. هبّ الجنرال ميشال عون يردد خطاب المظلومية وقال: "التنازل الذي حصل في الطائف تكرر اليوم بدرجة أعلى". لم ينتظر رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلا ساعات ليردّ الهجوم بالتاريخ. قال: "إننا نتعرّض لحرب إلغاء جديدة لعزل القوات شبيهة بالـ1989".

في صراعهما على النفوذ في البيئة المسيحية لا يستحضر العونيون والقواتيون مراحل تعاون رموزهما على "الآخرين". هنا يصير "الآخر" المنافس داخل الطائفة. كلّ المحرّمات تسقط أمام غاية شدّ عصب القاعدة الشعبية. "كنا أمام طائف ثانٍ والواقعة السياسية تسجلت، ولا يمكن محوها من الذاكرة المسيحية"، قال الوزير جبران باسيل، مذكراً المسيحيين بأن الجنرال كان رافضاً لاتفاق الطائف الذي ألحق الغبن بهم وكاد أن يعيد إليهم أمجادهم لو لم يخرج عليهم مارد جعجع من جديد. الدقة التاريخية غير مجدية في حالات كهذه. فالموضوعية لا تثير الغرائز.
 
التناقض جزء من أدوات لعبة تثمير الماضي في صراعات الحاضر. باسيل نفسه عاد وقال إن "المناصفة لم نتنازل عنها أيام القصف وفي اتفاق الطائف، لنتنازل عنها بالكلمة اليوم". الجنرال رفض الطائف أم أنتج بصموده المناصفة؟ لكل مقام مقال. فالتراشق بالماضي عليه أن يتأسس على ثنائية المظلومية والبطولة. "لم يدفعنا إلى الطائف سوى حرب التحرير"، ردّ النائب أنطوان زهرا. لعلّه قصد "حرب الإلغاء"،  فالقوات كانت حليفة قائد الجيش في حربه ضد السوريين وحلفائهم!
 
الإحالة إلى الماضي توقظ جراح اللبنانيين التي لم يسمح السياسيون لها بأن تندمل والنتيجة: كسب بعض الأصوات الإنتخابية على حساب السلم الأهلي. الموضوعان العزيزان على قلب العونيين هما خيانة القوات وحرب الجبل. القوات لا تستطيع سوى استحضار حربها ضد عون.
 
يقول باسيل إن القانون المختلط هو "حرب جبل جديدة". ويقول الجنرال أن "من يتمسكون بقانون الستين... هم انفسهم من قاموا بمجازر الجبل، وهم من هجروا الناس واحتلوا أملاكهم". وبعد أيام من كلامه هذا يصير من القابلين بهذا القانون. يتكل الجنرال على ذاكرة اللبنانيين العاجزة عن تسجيل لغو السياسيين.
 
ليس الجنرال وحده من يستخدم شياطين الحرب الأهلية. الكل يقومون بذلك وإن كان يفوقهم من حيث الوتيرة. تارة يقول النائب السابق فارس سعيد للجنرال: "حدودك المدفون" قارئاً في خريطة حربية يحتفظ بها منذ عام 1989. وتارة أخرى يصف النائب وليد جنبلاط المسيحيين بأنهم "جنس عاطل" مذكراً بما قاله والده للرئيس السوري حافظ الأسد عام 1976.
 
يريد اللواء جميل السيد انتقاد جنبلاط، فيقول له إن "زمن أبو سعيد العنترازي وأبو هيثم والكاوبوي وغيرهم من عصابات الترهيب والاغتيال قد ولّى إلى غير رجعة". كل شيء يذكرنا بأن الماضي لا يزال حاضراً وبقوة. حركة أمل تقسم التاريخ إلى ما قبل إسقاط اتفاق 17 أيار وما بعده. حزب الله يؤسس التاريخ على ثنائية "قبل الـ82 وبعد الـ82" الشهيرة. النائب نواف الموسوي يتلقف هذه الثنائية ويهاجم "المجازفين الأبديين" الذين يرغبون في قهر بقية الطوائف. يعترض النائب سامي الجميّل على هذه القسمة ويقول: "نحن المقاومة اللبنانية، نحن بشير الجميل ونحن من حملنا السلاح وإشترينا السلاح".
 
التراشق بالماضي لا يحصل فقط بين الخصوم. كثيراً ما يتبادل الحلفاء الرسائل بواسطة هذا السلاح. النائب إيلي ماروني ردّ على اعتبار النائب خالد الضاهر "أن زحلة لم تقدم شهداء"، بالقول: "زحلة قدمت 655 شهيداً، وعندما كنا نحارب السوري كان الضاهر حليفه".  
في إحدى المناسبات، كان مرشح كسرواني للإنتخابات النيابية الحالية ينقل خبرته في التكتيك السياسي إلى بعض المجتمعين. أبلغهم خلاصة خبرته السياسية التي  تفيد بأن كسب الشعبية مسألة بسيطة. قال: "يكفي أن تذكر أهالي جبيل وكسروان بممارسات أحمد الخطيب (قائد جيش لبنان العربي) لكي يدعمونك". هذه هي ألف باء العمل السياسي في لبنان!
 
يقول الخطاب اللبناني الرسمي أن "وثيقة الوفاق الوطني" أرست السلم الأهلي في لبنان. ولكن... كل المتحاربين القدامى يتمسكون بكل المقولات التي خاضوا الحرب على أساسها. فإلى متى سيصمد سلمنا الأهلي؟

منشور في www.almodon.com في 29/5/2013

ليست هناك تعليقات :