"ثقل" ميشال عون" ليس توصيفاً يطلقه عليه أحد
خصومه. هو من تحدث عنه. في معرض مديح نفسه أخرج النائب عون مصطلحاً مناسباً لوصف
سلوكه السياسي. ولكن... ليس عون وحده مَن تنطبق عليه هذه الصفة. حليفه الشيعي، حزب
الله، أثقل منه. وبما أن ثقل الشيء يقع على حامله فإن لبنان صار ينوء تحت هذين
الثقلين.
يبني الجنرال سياساته على ثنائية
الثقيل ـ الخفيف. بطبيعة الحال، ينظر إلى نفسه كثقيل أما الخفة فهي من سمات خصومه.
ربّما لهذا بات بعض أعضاء تياره يستسيغون وصف ظاهرتهم بـ"تسونامي" بعدما
سبق وهاجموا النائب وليد جنبلاط بسبب هذا التوصيف، وبعدما تحوّلوا إلى مجرّد موجة
مرتفعة يمارس عليها حزب الله رياضة التزلّج.
الثقل في قاموس عون يرادف التأثير
السياسي. من هنا قوله، تعليقاً على أحد التصوّرات لتشكيلة الحكومة القادمة، إن
"حكومة خفيفة لا يمكنها أن تحمل ثقل ميشال عون". جنرال الرابية مقتنع
بأنه القوة المسيحية الأقوى وبأنه يمتلك الحق في ما كان قد أسماه يوماً
بـ"الوزارات المارونية".
تصور العونيين لأنفسهم هو مصدر
"ثقل" من نوع آخر. باتوا يرهقون الصيغة اللبنانية عند كل استحقاق.
"الخطوط الحمراء" غزت خطابهم. الحقائب الوزارية وشاغلوها طرحوا كخط أحمر
حين تشكيل الرئيس نجيب ميقاتي حكومته. "الانتقاص" من التمثيل المسيحي في مجلس النواب
يطرحه العونيون حالياً كخط أحمر. وقريباً سيبلغون الرئيس تمام سلام بخطهم الأحمر الذي لا يجب أن
تتخطاه تشكيلته الحكومية.
الثابت في كل الخطوط الحمراء العونية
هو الأنانية المفرطة التي لا تنظر إلى إنعكاسات مطالب تيارهم على الباقين. في علم
السياسة العوني، يمكن طرح فكرة حكومة وحدة وطنية لا تتمثل فيها القوى المسيحية
الأخرى، ويمكن الإصرار على "صحة تمثيل مسيحي" يهمش حقوق المسلمين.
ليست الأنانية العونية سمة خاصة بهم.
هي من سمات ممارسة السياسة لدى كل القوى السياسية اللبنانية منذ نشوء الدولة.
الخاص العوني هو الذهاب بهذه الأنانية إلى حدّها الأقصى. هذا ما صار يمثل ثقلاً لا
يطاق على الصيغة اللبنانية. الحدّ الأقصى لهذه الأنانية لا يتحقق إلا بالغلبة. لا
ينفع تمويه التوق إلى الغلبة بتسميته "استرجاع حقوق المسيحيين".
لا يبزّ العونيين في الثقل إلا حزب
الله. حليف التيار العوني يمتلك نظرة رؤيوية لنفسه ويؤمن بدور خلاصي مناط به.
أثقاله تتجاوز لبنان، مصدّعةً تركيبته، لترهق الوضع الإقليمي برمته.
في لبنان، صار خطاب حزب الله ثقيلاً.
يمارس السياسة انطلاقاً من نظريات فقهية وسياسية لا تتعدّى جميعها، برغم كل
تعقيداتها، منطوق القول: "أنا ومن بعدي الطوفان". ما يحظى بالأهمية، على مذهب حزب
الله، هو ما يمت بصلة مباشرة إلى المؤسسة الحزبية نفسها. ما يتعدّى ذلك يهتم به
لكونه من لزوم ممارسة السياسة.
يحدد حزب الله مطالبه ويقول للآخرين:
إما تلبيتها أو الفوضى. للحوار في مفهومه غاية من اثنتين. فإما أن يكون
للمماطلة وتمديد حالة يرضى عنها أو يكون لتحقيق مطلب يقرر أنه يجب أن يتحقق. على
القوى السياسية الأخرى أن تحقق مطالبها بمنّة منه لا لجدواها ولا لكونها حقوقاً.
إن لم يُعجبها ذلك وأصرّت على مطالبها تكون ساعية إلى الفتنة. منذ ست سنوات لم
يحقق الحزب مطلباً إلا وقرن عدم تحقيقه بالفوضى.
ازدواجية الأمن بين أمنه الخاص والأمن
الشرعي هي من الأمور المرضي عنها. إذن الغاية من الحوار حول مسألة الخروج من هذه
الإزدواجية لا تتعدّى التسويف. تخطي خطوطه الحمراء يدفعه إلى توجيه سلاحه إلى
"المعتدين". يريد "الثلث المعطل" في الحكومة فيشلّ البلد لأكثر من سنة. يريد
إسقاط حكومة فيرسل رسائل تهدد بالفوضى إن لم يتحقق الأمر.
تعليلات حزب الله للعقبات السياسية
التي تواجهه، لا تحتمل أيضاً. رفض وصفاته الجاهزة يعني أن "خلف البحار
والمحيطات ضغوط معينة" تمارس على الرافض. هكذا علّل مثلاً تأخر الرئيس ميقاتي
في إعلان تشكيلة حكومته! لا عجب في إلقاء اتهاماته المعلّبة على الخصوم.
ولكن الحزب لا يكتفي بلبنان. أثقاله
تجاوزت الحدود وبدأت تضغط على صدور السوريين في ريف حمص ودمشق وريفها. دور حزب
الله في الأزمة السورية ليس مفاجئاً. من يتفاجأ هو مَن يفهم السياسة بمنطق الدولة
ويتصور العلاقات الدولية كعلاقات بين دول. لم يأبه الحزب لهذا المنطق في لبنان
فلماذا سيأبه له خارجه؟ هو فقط من ينزف دماً أما الآخرون فتتسرّب منهم المياه.
منطق الحزب صار ثقيلاً بتناقضاته.
يستطيع أن يحوّل نوّابه إلى منظرين للديمقراطية التوافقية عندما يريد زيادة تمثيله
في السلطة. وقبل أن يجفّ حبر تنظيراتهم يسقط حكومة ويشكل أخرى يقصي عنها ممثل
السنّة الرئيسي. جنوباً،
يلوم المجتمع الدولي على عدم احترام الخط الأزرق وشمالاً يزدري اتفاقية سايكس –
بيكو التي تمنعه من دعم النظام السوري.
الصيغة اللبنانية تتمزّق تدريجياً
بسبب تضخيم عون لدوره وبسبب تضخّم حزب الله. الخفّة. صار مطلوباً قليل من الخفة
رأفة بلبنان وبالباقين فيه.