صورة المدونة

صورة المدونة

الجمعة، 22 فبراير 2013

الشيعي المستحيل

الشيعة المستقلون، الشيعة المختلفون، التنوّع الشيعي، الإختلاف الشيعي، القوة الشيعية الثالثة، البديل الشيعي... كلها مصطلحات تحيل إلى فكرة أساسية: في ظل الثنائية الشيعية، هل باتت الطائفة الشيعية، سياسياً واجتماعياً، كياناً تذوب فيه كل الاختلافات تحت راية الخطاب الموحّد لحزب الله وحركة أمل؟

من يعرف البيئة الشيعية، لا تغيب عنه حقيقة أن هذه الطائفة اللبنانية تختلف كثيراً عن الصورة التي يرسم ملامحها كلٌّ من خطاب الثنائية الشيعية وخطاب معارضيها في الوقت عينه. فإن كان الأول يريد تصوير نفسه كاحتكار له الحق بإدارة شؤونها وإن كان الثاني يستسهل تصوّر الأمور على هذه الشاكلة لتبرير عجزه عن مخاطبة المختلفين عنه ولضرورات التعاطي مع "شريك في الوطن"، تبقى حقيقة أن محددات الرأي العام في الطائفة الشيعية، كما في كل الطوائف اللبنانية، معقدة إلى حد تمتنع معه التعميمات عن النجاح في توصيف الحال.

في الوسط الشيعي، تنشط شخصيات كثيرة بتعارض مع "خط" الثنائية الشيعية. هؤلاء ليسوا كتلة واحدة ولا يحملون خطاباً موحداً. بالعكس، هم، كما بيئتهم، متنوّعون إلى حدّ كبير. لسان حال كثيرين منهم يقول إنه "شيعياً، لم يعد ممكناً السكوت عن الأضرار المتأتية من السياسات الأنانية التي تنتهجها قوى الأمر الواقع الشيعية، فقد تمادت هذه القوى في سعيها إلى التحكم بمصير الشعب اللبناني، وذلك بدعوتها، تحت عنوان المقاومة وسلاحها، إلى تبني معادلات سياسية تفوق قدرة التركيبة السياسية والاجتماعية اللبنانية على الاحتمال".

برأيهم، فشل الثنائي الشيعي في قيادة الطائفة الشيعية إلى الاستقرار، بل إن السياسات المتبعة تنعكس سلباً على عيش المواطنين الشيعة. "إذا توجهنا إلى طبيب ولم ينفعنا تشخيصه فهل نعيد الكرّة؟ من الطبيعي أن لا"، يقول أحدهم قاصداً ضرورة ولادة إطار سياسي شيعي بديل.
يسعى المعارضون الشيعة إلى الحدّ من "التشوّه اللاحق بصورة اللبنانيين الشيعة في الداخل والخارج"، لأنه  ينعكس سلباً على علاقتهم باللبنانيين الآخرين ويهدد استقرار المغتربين منهم، خاصةً مَن هم في دول الخليج العربي، وفي هذا إضرار بالأمن الاقتصادي لعائلات شيعية كثيرة تعتمد في دخلها على تحويلات المغتربين المالية.

كلما اجتمع عدد من الشخصيات الشيعية المعارضة بهدف تظهير التنوع الشيعي للرأي العام وصياغة معالم إطار بديل تقفز إلى جدول أعمالهم تساؤلات حول مسوّغ اجتماعهم وكيفية التوفيق بين شكل لقائهم الطائفي وتوجهاتهم اللاطائفية. بعضهم يبرر تأطير الشيعة المعارضين بكون "أحد مشتركاتهم هو انتسابهم، مَن بالولادة ومَن بالثقافة ومَن بالعقيدة ومَن بالثلاثة معاً، إلى الجماعة اللبنانية الشيعية".

البعض الآخر، يبقى مرتاباً من كل ما هو طائفي. في أحد آخر الاجتماعات الموسعة التي جمعت عدداً منهم طالب أحدهم بتظهير "التنوع الشيعي المضغوط" بدون إنتاج "حالة مذهبية"، ورأى آخر وجوب تنظيم "مجموعة وطنية تنتمي إلى الطائفة الشيعية"، على غرار قرنة شهوان، ولاحقاً تتوسع لتضم شخصيات من كل الطوائف.

في المقابل، لم ترَ شخصية وازنة ضرراً في "الاجتماع كشيعة والحديث لبنانياً". في الفترة الأخيرة، مالت شخصيات كثيرة إلى فكرة خلق إطار سياسي يقتصر المنتمون إليه على الشيعة، رغم رفضها السابق، من منطلقات لبنانية ومدنية، التكتل شيعياً. أما السبب في هذا التحوّل فيتمثل في امتعاضها من الصورة النمطية للبناني الشيعي التي فرضتها عليه سياسات الثنائي الشيعي، وبشكل خاص بعد موقف حزب الله من الأزمة السورية. برأي أحدهم، "صار لزاماً على الشيعة المعارضين إبراز مواقفهم" كي لا يوصم كل منتم إلى الطائفة الشيعية بصفات تتعارض مع التراث الشيعي".

في ظل التغيّرات الإقليمية الراهنة، يُجمع معظم المعارضين الشيعة على ضرورة تشكيل طرف شيعي ثالث، "ففي حال عدم تشكيله لن يجد الآخرون سوى الرئيس برّي للتعاون معه في المرحلة المقبلة"، يقول أحدهم. ولكن ما الذي يحول بينهم وبين هدفهم؟ يلخص أحد المتابعين للحراك الشيعي الإختلافات الكامنة بينهم على الشكل التالي: "بعض الشخصيات تريد خلق إطار للاستفادة منه بشكل عاجل. آخرون يعتقدون بلا جدوى كل عمل قصير الأمد. هناك خلاف على النظرة إلى سلاح حزب الله، فبالرغم من شبه إجماع على النظر إليه كعامل سلبي في السياسة اللبنانية إلا أن البعض، خوفاً أو لمصالح خاصة أو عن قناعة، لا يزال يصرّ على إخراج "سلاح المقاومة" من السجال السياسي.

البعض لا يرى السياسة إلا على الطريقة اللبنانية فيهبّ إلى بناء علاقات مع أطراف خارجية وخاصة عراقية وهكذا تنتقل الحساسيات العراقية إلى لبنان. البعض واقعي، وبحكم تنوّع المعارضين يسعى إلى الاتفاق على ما يشبه البرنامج فيما يرى آخرون أن نقاشات كهذه هي نوع من الترف... في الإجتماعات، وبينما يركّز أحدهم مداخلته على البحث عن جوامع تربط المشاركين لشد عراهم، يتسرّع آخر ويهبّ للحديث عن ضرورة إصدار نشرة تنطق بلسان حالهم!".

إلى التنوّع الواسع في وجهات نظر المعارضين الشيعة، وهو مما يصعّب تأطيرهم في إطار موحّد، تشوب معظم هذه الشخصيات شائبة حب الظهور بموقع محوري في أي إطار سياسي تنضوي فيه. "كثرة الرؤوس الكبيرة تصعّب عملية ولادة تجمّع يضمهم"، يقول أحد المعارضين. أمام هذا الواقع، حاولت إحدى الشخصيات البارزة تعميم فكرة ضرورة اللجوء إلى التسويات "عندما تتعدد المشارب والمواقع"، وحاولت أخرى "تقديم ما يتفقون عليه من أساسيات على ما يختلف اجتهاد كل منهم بشأنه من جزئيات". ولكن كل هذه المحاولات لم تؤدِّ إلى النتيجة المرجوة منها.

وبرغم كثرة الشخصيات الشيعية المعارضة، إلا أنه من الصعوبة تشكيل إطار يجمعها ويكتسب نوعاً من الثبات. بين هذه الشخصيات عتب على "تسرّعها" في بعض المحطات السابقة، وبينها وبين "حلفائها الطبيعيين" في الطوائف الأخرى عتب مضاعف وخاصة بعدما أثبتت الأحداث الماضية أنهم يستسهلون التعامل مع الثنائية الشيعية على الرغم من التناقض في تصوراتهم حيال معظم القضايا.

الأربعاء، 13 فبراير 2013

يللي قادر عأكتر يلّا



"بدّي اتجوز مدني ببلدي". عنوان اللقاء الحواري يدلّ على مضمونه، وأيضاً يدلّ على خلفية المجتمعين الثلاثاء في قاعة عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت للمشاركة في محادثة حول الحق في عقد زواج مدني على الأراضي اللبنانية.
 
الشيخ محمد النقري، القاضي المنفرد في المحكمة الشرعية السنّية في بيروت، اعتذر عن عدم المشاركة في اللحظة الأخيرة. غيابه أخلى المنصة لمتحدثين يتشاركون، تقريباً، وجهات النظر ذاتها. كلّ منهم، رغم خلفياتهم المتعددة، يؤيّد، وإن على طريقته، فكرة الزواج المدني في لبنان.


"القرار الصادر عن الهيئة العليا للاستشارات في وزارة العدل هو نتيجة لعمل دؤوب على نقطة وجدناها في النظام اللبناني المتناقض ووضعنا بها حسناته في مواجهة سيئاته"، قال رئيس المركز المدني للمبادرة الوطنية طلال الحسيني.
 
 "الله لن يقول للمتزوجين يوم الدينونة: أروني عقد زواجكما ومَن كلّلكما بل سيسألهما فقط: هل أحببتما أحدكما الآخر كما أنا أحببتكما؟". قنبلة رماها الأب جورج مسوح.
 
 15 مليون دولار تكسبها المؤسسات الدينية،سنوياً، كبدل عن معاملات الطلاق والزواج وتضاف إليها 18 مليون دولار هي الميزانية التي تمنحها الدولة للهيئات الدينية المعنية بشؤون الأحوال الشخصية، أرقام أخرجها من جعبته جاد شعبان، المحاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية.
 
في اللقاء الذي دعت إليه الجمعية الاقتصادية اللبنانية، نادي حقوق الإنسان والسلام ومجموعة "حدا منّا"، كان الجميع ينتظر حديث الحسيني عن آخر المستجدات القانونية في مسألة تسجيل زواج الشابين نضال درويش وخلود سكّرية. لم يبخل عليهم. لخّص القرار الصادر عن الهيئة العليا للإستشارات بأربعة نقاط: من حق اللبناني الذي لا ينتمي إدارياً إلى طائفه أن يتزوج مدنياً في لبنان؛ كاتب العدل هو المرجع المختص لعقد هكذا زواج؛ للزوجين حرية تعيين القانون المدني الذي يريدان رعاية آثار زواجهما بموجبه؛ ليس هناك أي مانع من تسجيل عقد خلود ونضال في سجلات النفوس. الحسيني أوضح أن "وزارة الداخلية مهمتها التوثيق لا إنشاء الحق". ما فاته في مداخلته المقتضبة عوّض عنه في إسهابه رداً على أسئلة الحضور. "النظام الطائفي اللبناني الطائفي هو مجرّد أنقاض في الوقت الحاضر. نتظاهر بأننا في نظام دستوري ولكن لا. نحن في نظام يتأسس على موازين القوى بين الطوائف"، كان أبرز ما أضافه على كلامه القانوني. هذا إلى دعوته إلى "تأليف الشعب انطلاقاً من حرية الإختيار وتخيير الناس في أن يكونوا مواطنين أو أبناء طوائف"، رداً على دعوة شاب متحمس إلى ضرورة إقرار إلزامية الزواج المدني.
 
الأب مسّوح، المتحدث الذي صفّق له الحضور بقوة، طالب بتشريع الزواج المدني "كي يتوقّف تأجير الكنائس للعرسان وتحويلها من مكان للعبادة إلى مكان للعريّ". مسّوح استطرد موضحاً أنه ليس ضد العريّ ولكن لا يجب تحويل أمكنة العبادة إلى صالات لاحتفالات دنيوية". الأب الأرثوذكسي ذكّر بأن الكنيسة في القرون السبعة الأولى من عمرها لم تكن تعتبر الزواج سرّاً وكان المسيحيون يتزوجون مدنياً وكان مقبولاً الزواج من الوثنيين. مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند اعتبر أن "الزواج ليس سوى تعاهد حبيبين علناً على تأسيس حياة مشتركة"، وأضاف أن "الحرية هي ما يميّز الإنسان عن باقي االمخلوقات وحرمانه من حريته ما هي إلا محاولة لردّه إلى البهيمية". ممثل رجال الدين الوحيد في الحوار أعرب عن تأييده فكرة الزواج المدني الإلزامي لكل اللبنانيين ودينياً اختيارياً لمن أراد وذلك كي تستعيد الدولة ما خسرته من سيادتها و"لكي لا نبقى قبائل". وختاماً، لم ينس التذكير بأنه يمثل موقف الكنيسة الأرثوذكسية لا الكاثوليكية 
.
نجم مداخلة شعبان كانت الأرقام التي عرضها. متوسط كلفة الزواج الإسلامي هو 200 دولار. في بيروت، يدفع المسيحيون حوالى 2500 دولار كبدل إيجار للكنيسة وتصل الأرقام إلى 10 آلاف دولار في بعض الكنائس. كمتوسط، على مستوى لبنان، يدفع المسيحيون 300 دولار. عقد الزواج المدني في لبنان سيوفر على كل ثنائي يقرر الزواج مدنياً 1400 دولار.
 
على المنصة كان هناك متحدث رابع هو مارك ضو، الناشط في حملة "حدا منّا". كلامه أتى عاماً وختمه بخلاصة لخبرته في النضال والتي أوصلته إلى أن الزواج المدني ينقذ الجيل الشاب الذي ولد بعد انتهاء الحرب الأهلية والذي نشأ بعيداً عن هواجس الحرب وخاصةً خاصةً أن هذا الجيل فعال كونه ناشطاً على "تويتر". نضال وخلود جلسا إلى جانب المتحدثين كعضوي شرف.
 
إلى ختام مشاركاته ترك طلال الحسيني توضيحه بأن شاطبي طائفتهم من سجلات النفوس يعتبرون "غير منتمين إدارياً إلى طائفة ما" وهم غير "طوائف الحق العادي" (الطائفة 19) التي تحدث عنها القرار 60 ل.ر على عكس ما فهمته هيئة التشريع والاستشارات التي أدلت سابقاً برأي "فاسد" قانونياً. "سأردّ على مقولة: هلقد ما بيكفي"، قال الحسيني، وأجاب: "يللي قادر عأكتر يلّا"، فاتحاً يديه مع ابتسامة لا تخلو من علامات التحدي.


مقالة منشورة في جريدة المدن الالكترونية في 13/02/2013
www.almodon.com

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

النزاع على الجيش

من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وشرقاً نحو البقاع قُطعت الطرقات وأشعلت الإطارات المطاطية وأطلقت المواقف "الوطنية" المستنكرة للإعتداء على الجيش اللبناني في قرية عرسال. لوهلة، يظنّ المتابع أن الالتفاف العابر للطوائف حول الجيش هو إما تكريس لحالة وطنية متأصلة أو، أقلّه، تعبير عن وحدة وطنية أبصرت النور أخيراً.

لا شك أن ما تعرّض له عناصر الجيش مدان وبشدّة خاصة وأن المؤسسة العسكرية هي من المؤسسات القليلة التي لا تزال تمتلك القدرة الرمزية على الإيحاء للمواطن اللبناني بأنه يعيش في دولة، لكن المسألة ليست هنا بل في التكاذب المفضوح الذي تنم عنه المواقف الرنّانة.

هو الجيش نفسه الذي قيل له عندما واجه إرهابيي فتح الإسلام بأن "مخيّم نهر البارد خط أحمر" وقيل إن فيه ضباطاً ذوي رتبة رفيعة "مندسّون" أثناء أحداث مار مخايل. هو الجيش نفسه ولكن نستطيع ملاحظة اختلاف مواقف أطراف عدّة حيال تعرّض إحدى دورياته لكمين في رياق أسفر عن سقوط أربعة من عناصرها وحيال الاعتداء الذي تعرّض له منذ أيام.

تعرف القوى التي تزايد بعضها على بعض بدعم الجيش أن مواقفها ليست مقنعة لجميع اللبنانيين. والتضامن مع مؤسسة الجيش، وإن اختلفت هوية المتضامنين بين حادثة وأخرى بحسب إمكانيات التأويل السياسي لما يتعرض له الجيش وكيفية الاستفادة منه في الإنقسام السياسي، يحمل دلالات كثيرة. فاللبنانيون جميعاً يتمسكون بفكرة الدولة اللبنانية ولا يريدون الطلاق العلني معها. ولكن، في الوقت عينه لا يستطيعون تصوّر هذه الدولة بلا غلبة أهلية. يتضامن المتضامنون مع الجيش إن كان المخلّ بالأمن هو "العدوّ" الداخلي. بتضامنهم يحاولون وضع أنفسهم، رمزياً، في موقع الوطني وهذا ما لا نلحظه إلا عندما تخدم فكرة "الوطنية" في المواجهة مع آخر في الداخل اللبناني.

هو نوع من صراع أهلي على مؤسسة وطنية. وإلا ما معنى التضامن بقطع الطرقات مع مؤسسة من واجباتها تأمين سلوك هذه الطرقات أمام المواطنين؟ ينجح الجيش في الحفاظ على رمزيته الجامعة لا بسبب قوته بل بسبب سيل دماء شهدائه على كل مفاصل النزاعات اللبنانية الأهلية. المستثمِر حيناً يغدو مستثمَراً في ساحته الأهلية حيناً آخر. ولكن هذه المعادلة لا تستمر إلا باستدامة سيل دماء عناصر الجيش! فهل هذا ما تريده القوى السياسية؟

دائماً، يتحدث من هم في موقع "وطني" ضعيف تجاه واقعة التعدي على الجيش اللبناني عن "تحقيقات شفافة ونزيهة" آملين أن يقعوا على واقعة ما تُخرجهم من حرجهم. يمهدون لذلك بموجة إشاعات تُشبع توق قواعدهم الأهلية إلى لعب دور الضحية. ودائماً ما يجد المستفيدون من الأحداث بلاغة "وطنية" لم يعتد عليها متابع مواقفهم ويستثمرون الحدث خطابياً إلى الحد الذي يعيق استعادة خصومهم ماء الوجه الوطني.
دون أن ننسى ما في هذا الميل من إشاحة للبصر أو من تبرؤ، إلى حين، من مواقف سابقة تناقض تلك الراهنة. وهنا يُستدعى الحلفاء لأن الإكثار يوحي بـ"الإجماع الوطني". حادثة عرسال، استنكرها، على سبيل المثال رئيس نقابة مكاتب السوق، حركة الأمة، بلدية صور...
حزب الله استنكر حادثة عرسال ورأى فيها "خطورة بالغة تمس هيبة الدولة وأمن الوطن بأكمله".

وجد الحزب مناسبة يستطيع معها عكس تهمة توجه إليه بشكل أساسي. هكذا هي السياسة في لبنان: مماحكات كلامية ومحاولات استثمار في التوازنات الأهلية، استثمار لا أفق واضحاً له. ثم يخرج وزير الداخلية مروان شربل طالباً "عدم إدخال السياسة في الموضوع" رغم أن الحادثة تتلبّسها السياسة بدءاً من تشكل الحالة التي اعتدت على دورية الجيش وصولاً إلى آخر موقف مرتبط بها!

كلّ يغنّي على ليلاه. اللقاء الأرثوذكسي غنّى على ليل اقتراحه لقانون الانتخابات فقرأ الحادثة على أساس احتمال كونها "بداية مسلسل قد تؤدي الى تأجيل الانتخابات النيابية". لكن السؤال الأصلي يقع في مكان آخر: متى ينتهي مسلسل النفاق اللبناني؟

(منشورة على موقع المدن www.almodon.com في 06/02/2013)

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

آخر أيام الموارنة



مع بداية الحلقة الثانية من مسلسل اللجنة الفرعية الانتخابية، تتزاحم أسئلة كثيرة ولّدها إمعان القيادات السياسية المارونية في الحديث عن "صحّة التمثيل المسيحي" غير آبهة بـ"صحّة الوطن". أسئلة كثيرة تتزاحم وجلّها يتمحور حول فكرة أفول عهد الموارنة في السياسة اللبنانية!
 
منذ تأسيس الدولة اللبنانية، غيّرت وقائع كثيرة موقع اللبنانيين الموارنة في السلطة السياسية. بين الماضي "الذهبي" والحاضر المفتوح على جملة متغيّرات لا يبدو أن الموارنة ما زالوا قانعين بفكرة وطن لبناني يلعبون فيه دوراً ريادياً. فشل الموارنة في اكتساب مرونة سياسية تواكب مرونة التحولات التي يشهدها الوطن الصغير.
 
آخر فصول تمظهر مأزق تفكيرهم كان اجتماع اللجنة الرباعية المسيحية في بكركي وإحياء "تجمّع الخصوم" جثة اقتراح اللقاء الأرثوذكسي حول قانون الانتخاب ثم رقصهم حولها في اجتماعات اللجنة الفرعية الإنتخابية رغم اختلافاتهم. لم يكن إجماع بكركي المثير للجدل تجسيداً لوحدة الطائفة التي تتوق إليها أغلبية المسيحيين على ما بيّن استطلاع للرأي أجري مؤخراً. هو دليل على بروز قناعة مارونية مشتركة بضرورة حجز حصتهم في الوطن لفقدانهم الثقة بإمكان أداء دور وطني على كامل مساحة الـ10452 كلم2. ما اتفق عليه الموارنة في بكركي لا يعدو كونه إرادة اقتطاع نصف مجلس النواب اللبناني من الفضاء اللبناني وتكريسه كفضاء مسيحي منفصل. يتخلى الموارنة عن إرادة الشراكة الحقيقية مع المسلمين ويرفضون الاستمرار في العمل على إقناع الناخب المسلم بصوابية ما يطرحونه على الصعيد الوطني.
 
كان على الموارنة، منذ وقت طويل، أن يفهموا أن البقاع اللبناني لم يعد أهراءات لبنان وأن الجنوب اللبناني لم يعد جزءً من الوطن وظيفته وصل بعض القرى المسيحية الحدودية النائية بجبل لبنان. كان عليهم، منذ وقت طويل، أن يفهموا أن ارتفاع نسبة الولادات في الشمال اللبناني يولّد مواطنين كاملي الأهلية لهم الحق بتحديد شكل لبنان. تأخروا ولم يفهموا ما يحصل حولهم من متغيّرات. الآن، يريدون أخذ مسافة عن المجتمع اللبناني وتسجيل مكاسب خاصة للمجتمع المسيحي.
 
ليس مهماً إمكان تمرير مشروع اللقاء الأرثوذكسي في مجلس النواب (ولمرة واحدة فقط) أو عدمه، وليس مهماً أن توافقهم على هذا الطرح يهدف إلى إحراج بعضهم البعض على الساحة المسيحية. المهم أنهم يجاهرون برفضهم صوت الناخب المسلم، وفي هذا اعتراف منهم بعجزهم عن التواصل معه. المهم أنهم يطرحون تمثيلهم في مجلس النواب بلا دنس الأصوات المسلمة حتى ولو كان طرحهم يؤدي عملياً، ولأن المسيحيين هم ثلث اللبنانيين، إلى معادلة: كل مسيحي يساوي مسلمين.
 
صحيح أن المسيحيين يعانون للبنانيتهم من آفات كثيرة تجد بيئتها في طوائف أخرى. لهم الحق في القلق من فوضى السلاح ومن التشدد الديني الإسلامي. لهم الحق في الخشية من طوائف تشترك معهم في الوطن وتمتاز عنهم بشبه أحادية في التمثيل وبمحيط إقليمي حاضن. ولكن صحيح أيضاً أن قياداتهم السياسية تتشارك، بالتضامن والتكافل، مع القيادات السياسية المسلمة في فشل الدولة اللبنانية واهترائها بسبب الفساد والمناصفة في الحرص على حجز حصص الطوائف من قالب الجبنة اللبناني. المأزق اللبناني ليس نابعاً من خيارات الناخب المسلم.
 
في توافقهم على مشروع اللقاء الأرثوذكسي يفضّل الموارنة شكلية المناصفة على المشاركة في بناء الوطن. صار للمسلم المتطرّف الآن الحق في اقتراح احتساب صوت النائب المسلم صوتين مع المحافظة على المناصفة! ليسجّل الموارنة على أنفسهم أنهم كانوا البادئين في إفراغ المناصفة من مضامينها الجامعة.
 
لم يعد الموارنة يؤمنون بأنهم "ملح لبنان". ما عادوا قانعين بالصيغة اللبنانية العابرة للطوائف. اتسعت الصيغة اللبنانية عليهم بسبب هزلهم الديموغرافي وهم الآن يريدون رداءً ضيّقاً على مقاسهم.
 
في بلد ديموقراطي تعددي، للموارنة الحق في اقتراح صيغة العيش المشترك التي يريدون. ولكنهم منذ أن يقرروا جهاراً برغبتهم في حجز حيّز خاص لا يشاركهم فيه المسلمون، عليهم تحقيقها بالمشاركة مع متطرفي الطوائف الأخرى لا مع معتدليها. نحن نعيش آخر أيام الموارنة في السياسة الوطنية الجامعة. ونشهد لحظة تحوّل مطالب الموارنة إلى مطالبة بامتيازات للمسيحيين في السلطنة اللبنانية

مقال منشور في جريدة المدن الالكترونية في 4/2/2013
 www.almodon.com

حكمة "الشيعي الأعلى"

 أسلوب ومضمون البيان الصادر عن هيئة التبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بخصوص الزواج المدني يحرّض على قراءة متأنية له. فالهيئة التي ارتأت الابتعاد عن "ردود الفعل الحادة" قررت الإدلاء برأيها بهدوء لافت. قررت مواجهة الطرح "بمعالجات موضوعية".

تطرقت الهيئة إلى "اعتبارات" ثقافية أخلاقية، فقهية، حقوقية ووطنية تبرر رفض الزواج المدني. للهيئة ملء الحرية في "اعتباراتها" الثقافية والفقهية تماماً كما لكل لبناني حرية الاقتداء بثقافة أو بأخرى طالما أن هذه الحرية تُمارس ضمن إطار احترام القوانين اللبنانية. ببساطة، صارت ضرورية إزاحة السجال الدائر حول الزواج المدني من دائرة اللغو الساذج الذي يدّعي عدم تعارض هذا النوع من الزواجات مع الشرائع الإسلامية والمسيحية إلى مكانه الصحيح، أي إلى الحفاظ على تعددية ثقافية منفتحة وبناء المواطنة.

أما في ما تضمنه بيان الهيئة من اعتبارات حقوقية ووطنية، فيجب مساءلتها على ما ارتكبته من مغالطات قانونية وعلى فهمها الجامد للصيغة الوطنية اللبنانية وعلى تحويلها حريات الطوائف المصانة دستورياً إلى محاولة للهيمنة.

ادّعت الهيئة أن تشريع الزواج المدني "مخالف للعقد الاجتماعي" لا بل اعتبرت أن هذه "المخالفة" تستوجب إجماعاً وطنياً لكي لا تتحول إلى "انقلاب على الوطن". ولكي تبرر ادعاءاتها حوّلت نفسها، من دون حق، إلى مفسّر للدستور اللبناني. أصابت الهيئة في وضعها نظام الأحوال الشخصية في إطار المادة 9 من الدستور التي تنص على "حرية الاعتقاد" وتضمن "للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية". ولكنها شطت كثيراً عندما لم تفهم مضمون المادة التاسعة بالارتباط مع مضمون المادة العاشرة التي تنص على أنه "لا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة" من دون أن يعني هذا أنه ليس للدولة أن تنشىء مدارس رسمية ومن دون أن ينتقص من حق الدولة في تحديد "الأنظمة العامة".

بكلام آخر، حاولت هيئة التبليغ تحويل حقوق الطوائف المنصوص عليها دستورياً إلى محاولة للهيمنة على كلّ المجتمع اللبناني والقضاء على حركته وتجميده عند نقطة زمنية معيّنة. وفي مسعاها هذا استشهدت بمضمون القرار 60 ل.ر الصادر سنة 1936، بلا أن تلتفت إلى أن القرار رقم 53 الصادر في 30/3/1939 يلغي تطبيق القرار 60 ل.ر على المسلمين! لو كانت الهيئة قد تناولت شأنا فقهياً لكنّا قلنا إنها نالت أجر الاجتهاد ولكن بما أنها تناولت شأناً قانونياً فنقول إنها ارتكبت إثم الحكم بلا بيّنة.

أهمّ تحدٍّ أمام اللبنانيين هو إدارة تنوّعهم الثقافي بعيداً عن مشروعات الهيمنة الفئوية. إذا كان للطوائف حق عيشها ثقافتها في المجتمع اللبناني فإنه ممنوع عليها أن تقيّد مواطناً لبنانياً بنمط ثقافي معيّن على الرغم منه لأن في هذا انتهاك لحرياته الشخصية. انطلاقاً من هذا المبدأ، لا يحق للهيئة وصف المطالبين بالزواج المدني بأنهم "أقلية مختلقة غير محققة" ولا يحق لها أن تنعتهم بـ"الطائفة اللا دينية". فمطلب الزواج المدني وقانون الأحوال الشخصية المدني الاختياريين هما مطلبان عامان ينطبقان على جميع اللبنانيين الراغبين بهما أي أنهما مطلبان وطنيان يتجاوزان رؤية هيئة التبليغ للمواطنين كأبناء طوائف.

في بيانها استعادت الهيئة كلام السيد موسى الصدر عن دولة "علمانية مؤمنة" وطعّمته بكلام السيد حسن نصر الله عن مؤتمر وطني يناقش طبيعة العقد الإجتماعي اللبناني. فدعت "إلى خلق إطار حواري وطني يتولى معالجة مثل هذه الطروحات ومناقشة مدى انسجامها مع الدستور والعقد الاجتماعي اللبناني، أو مدى إمكانية تطوير العقد الإجتماعي ولكن بإجماع وطني". ولكنها حددت مسبقاً نتائج هذا الحوار عندما أشارت، في موقع آخر من بيانها نفسه، إلى حوار ينطلق من "ضرورة مواجهة طرح الزواج المدني"، وربطت في موقع ثالث بين هذا الحوار و"إلغاء الطائفية السياسية"!

كثيرة هي المآخذ التي يمكن تسجيلها على بيان هيئة التبليغ كمثل اعتبارها الزواج المدني فاقداً لـ"الحاضن الثقافي" وكتنبؤها بأن وصف قانون الأحوال الشخصية بالاختياري (وهو شيء غير موجود حالياً!) "يهدف إلى تمويه حقيقة أن الاختيار المتاح ابتداء لا يستتبع الاختيار استمراراً، بل يصبح المتعاقدان مدنياً ملزمين وخاضعين للنظام الحقوقي المدني ولا يتاح لهما العودة إلى النظام الديني".

الهيئة دعت من يريد التحدث عن الزواج المدني إلى أن يتحلى بـ"الحكمة". على أمل ألا يكون مفهومها للحكمة شبيهاً بحكمة الشيخ عبد الأمير قبلان في دعوته، قبل أيام، إلى "احتضان الشعب السوري لجيشه".

(مقال منشور في جريدة المدن الالكترونية في 2/2/2013. www.almodon.com)

الجمعة، 1 فبراير 2013

أوهام مفتي الديار

عندما أطلّ مفتي الجمهورية اللبنانية على اللبنانيين بفتواه الأخيرة حول الزواج المدني، انطلق من اعتبار "العلماء هم قادة الأمة وهم ورثة الأنبياء وهم حملة أمانة الإسلام من بعدهم". لوهلة توهّم المفتي لنفسه مكانة كتلك التي كانت لمن يقرأ عنهم في كتب التاريخ والشريعة!

تجاوز المفتي واقع مكانته القانونية في المنظومة الحقوقية اللبنانية وهدد مسؤولي الدولة المسلمين في السلطة التشريعية والتنفيذية بحكم الردّة عن الإسلام إن وافقوا على تشريع الزواج المدني حتى ولو اختيارياً. لم يعر المفتي انتباهاً لكونه عاجزاً عن تطبيق الحكم بالردّة إلا إذا قرر الخروج عن القانون وتطبيق قانون العقوبات المدني عليه بالتالي، شأنه شأن باقي المواطنين.

في فتواه، ارتكب المفتي، بحسب المحامي نزار صاغية، جرماً جزائياً تنص عليه المادة 329 من قانون العقوبات بسعيه إلى "منع الناس من ممارسة حق مدني" و"منع النواب والوزراء من ممارسة واجب مدني". فالمادة المذكورة تؤكد أن "كل فعل من شأنه أن يعوّق اللبناني عن ممارسة حقوقه أو واجباته المدنية يعاقب عليه بالحبس من شهر إلى سنة، إذا اقترف، بالتهديد والشدّة أو بأي وسيلة أخرى وسائل الإكراه الجسدي أو المعنوي".

لقد هدد المفتي كل من يوافق من المسؤولين المسلمين على الزواج المدني بأنه "لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين". تراجع المفتي عن فتواه التي أصدرها عام 1998 والتي حكم فيها بالردة على "كل من يعتقد بجواز تطبيق أحكام الزواج المدني"! لعلّه خشي خروج جموع غفيرة من تحت عباءة دار الفتوى الدينية إن استمر في توسيع دائرة مَن تطبق عليهم فتواه.

المفتي ليس موظفاً عادياً، بل يمكن اعتباره "موظفاً إكسترا" فإقالته شبه متعذرة لأنه، بحسب المرسوم الاشتراعي رقم 18 الذي ينظم الإفتاء والأوقاف الإسلامية، "لا يعفى من منصبه إلا لدواع صحية تمنعه من حسن القيام بمهامه، أو لأسباب خطيرة، ويصدر قرار الإعفاء من مجلس الانتخاب الإسلامي بدعوة من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى حال عدم اعتزال المنصب بالطوع والاختيار وذلك بأكثرية ثلاثة أرباع الأعضاء على الأقل".

وبما أن المفتي، أساساً، لا يستطيع تطبيق حكم الردّة، ماذا يبقى من مفاعيل قانونية لفتواه؟ يستطيع المفتي منع دفن "المرتدين" في المدافن التابعة للوقف السنّي، ومنع موظفي دار الفتوى من غسل الميت والصلاة عليه حين وفاته ويستطيع عدم مساعدة السنّي المغضوب عليه من مال الزكاة. ولكن لا سلطة له خارج دائرة الأوقاف وموظفي دار الفتوى.

ولكن ماذا عن القضاء الشرعي وهو القضاء الذي لا بد للمواطن اللبناني السنّي من المثول أمامه أقله لغايات الزواج والطلاق وتقسيم الإرث، والذي لا بد للمواطن المتزوج مدنياً في الخارج من المثول أمامه في القضايا ذات العلاقة بالإرث؟ هنا يجب الانتباه إلى أن الفقرة الرابعة من المادة 95 من قانون تنظيم القضاء الشرعي تعطي للهيئة العامة لمحكمة التمييز (المدنية) حق الاعتراض على الأحكام الصادرة عن المحكمة الشرعية السنية لسببين قانونيين من قانون أصول المحاكمات المدنية وهما: عدم اختصاص المحكمة الطائفية ومخالفتها لصيغة جوهرية تتعلق بالنظام العام. وعليه إذا أراد القضاء الشرعي الحكم على أحدهم بما يخالف النظام العام سيجد القضاء المدني في مواجهته.

من ناحية ثانية، لا يطبق القاضي الشرعي قرارات المفتي. فتوى المفتي على شخص ما بالردة لا مفاعيل لها أمام القضاء الشرعي السنّي. فالمحاكم الشرعية السنية بحسب المادة 242 من قانون تنظيم القضاء الشرعي (معدّلة عام 2011) تنص على الآتي: "يصدر القاضي السنّي حكمه طبقاً للأحكام المنصوص عليها في القرارات الصادرة عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في الأحوال الشخصية للمسلمين السنّة والمتعلقة بتنظيم شؤون الطائفة الدينية... في حال عدم وجود أي نص يرجع القاضي السنّي إلى قانون حقوق العائلة العثماني الصادر في 25/10/1917، وإلا فيحكم طبقاً لأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة".

هذا التعديل الخطير أعطى المجلس الشرعي، لأول مرة، مثل هذه الصلاحية. والسؤال ماذا لو قرر المجلس الشرعي الحكم بالردّة على أحدهم؟ هل يمنع من الزواج أو تطلق زوجته منه أو يحرم من الميراث؟ هل تتدخل الهيئة العامة لمحكمة التمييز من منطلق حماية "النظام العام"؟ ليس هناك سوابق ذات صلة بهذه المسألة.

بعد كل هذا، لماذا أطلق المفتي موقفاً مفاعيل تنفيذه مقيّدة؟ برأي المحامي نزار صاغية، "الزواج المدني مرفوض لأنه زواج خارج تحكم المؤسسات الدينية وخارج المحاصصات بين الطوائف. حرية الاختيار تخفف سيطرة هذه المؤسسات على المواطنين". أما برأي الوزير السابق يوسف تقلا، فمن الطبيعي أن يدافع المفتي عن "لقمة عيشه"، ويضيف أن "في الإسلام موانع تحول دون تأييد الزواج المدني ولكن منطلق الرفض هو الدفاع عن مصالح أعضاء المؤسسات الدينية". ولإثبات كلامه يتساءل تقلا عن أسباب عدم الاعتراض على قوانين كثيرة مخالفة للشريعة مثل قانون السماح بتوريث حساب مصرفي بسرية تامة والذي يمكن صاحب الحساب من ضرب مبدأ "للذكر مثل حظ الانثيين" لا بل يمكن من خلاله تطبيق مفاعيل التبنّي الممنوع على المسلمين.

الدولة المؤمنة والوطن الزاني

لم يكن على اللبنانيين انتظار السجال الدائر حول الزواج المدني ليتنبهوا إلى الفوارق الكبيرة التي تبعدهم بعضهم عن بعض وتضعهم أمام حقيقة كونهم جماعات تتشارك رقعة جغرافية لا شعباً يمتلك حداً أدنى من المشتركات.

ليس مهماً، للأسف، رأي المدنيين في هذا السجال فالإنقسام اللبناني الحاد حصر حركتهم، منذ أمد بعيد، في هوامش المجتمع اللبناني. الأهم هو الاستجابات الطائفية لهذه الفكرة التي تطل برأسها من حين إلى آخر وكأنها خجلة من ظهورها في زحمة الصراخ حول حقوق الطوائف.

ترفض القوى القيّمة دينياً وسياسياً على أبناء الجماعات اللبنانية التخلي عن حقها الحصري في إدارة شؤونهم لصالح إطار أوسع كي لا يذوب جزء منهم فيه ويخرج عن سيطرتها. تمارس الجماعة العنف الرمزي والمادي على أفرادها كي لا يخرجوا عن "إجماعها". لا تقبل بترك الخيار لهم لأنها أسيرة الشك بهم ودائمة القلق من تفسخ الجماعة تحت وطأة حرية الخيار المخيفة.

هذه هي أسباب رفض الجماعات الطائفية للزواج المدني "الإختياري". هي لا تقبل بتوسيع الحيّز الذي تديره الدولة لأن توسعه يتساوق مع انحسارها. في السجالات الأخيرة حول الزواج المدني "الاختياري" ظهرت تصريحات كثيرة مؤيدة له بلا شروط، اشترك مطلقوها في كون معظمهم مسيحيين ربطوا تأييدهم للفكرة بكونها تعزز العيش المشترك او تساهم في تخطي الحالة الطائفية وفي استكمال الدولة المدنية. من الغرابة بمكان مجيء هذه الفكرة من بيئة احتضنت مشروع اللقاء الأرثوذكسي ويرفض بعض ممثليها بيع أراضي المسيحيين لمسلمين وتدير إحدى مؤسساتها الدينية الكبيرة مشروعاً هدفه التشجيع على زيادة الإنجاب لتصحيح الخلل الديموغرافي في لبنان. ولكن، رغم ذلك، يبدو أن المسيحيين يقبلون بتنظيم جماعتهم في ظل منح الأفراد حرية الخيار.

في كل الحالات، يعلم المسيحيون أن الزواج المدني "الاختياري" مرفوض من شريكهم المسلم في الوطن ما يمنحهم هامش مناورة كبيراً نظراً إلى انسداد الأفق وبُعد لحظة الحقيقة. المسلمون، وخاصة السنّة منهم، لم يخيبوا، كما لم يخيّبوا يوماً ظنّ المترددين. انبروا إلى مهاجمة طرح الفكرة حباً منهم بالظهور بمظهر حامي الشريعة. يدعون أن هذا الطرح فيه افتئات على الشريعة. أحدهم تمنّى ألا يخيّر اللبنانيون بين الدين والوطن. وبطبيعة الحال، كي لا يرفضوا الوطن! الملفت في الأمر هو ظهور هيئات وشخصيات سنية لا نسمع بها إلا حين طرح الأفكار المدنية أو حين ضرورة وقوف السنّة في وجه محاولات تشويه التاريخ العثماني في لبنان. واللطيف هو دعوة البعض إلى عدم طرح مشاريع فتنة لأن ضرورات مواجهة العدو الصهيوني تقتضي الوحدة. والألطف هو إسهام حزب النجادة في الإجماع الرافض، هذا الحزب الذي صادفناه لآخر مرّة في كتب التاريخ على بعض المتاريس المنصوبة في البسطة أثناء أحداث 1958!

المسيحيون يقبلون بالزواج المدني "الاختياري" وهم على يقين بأن المسلمين سيرفضونه. الدروز يدعمون الطرح توقاً إلى دولة مدنية تحررهم من تحديد دورهم وفق عددهم ويراهنون على قوة العادات الاجتماعية لعدم الذوبان. الشيعة يفضلون السكوت تاركين مهمة الرفض للسنّة، وإن افترب الاستحقاق لن يبخلوا على الشريعة بالدعم. على الساحة السنية، لا مكان للوسطية في هذا الموضوع. أثبت الرئيس نجيب ميقاتي هذه الحقيقة في مجلس الوزراء.

لا يطلب رافضو الزواج المدني "الاختياري" من مؤيديه تفهم هواجسهم. هذا ليس من شيم الرجولة الطائفية في لبنان. يقومون بهجوم مضاد مفاده تضمين كلامهم الرافض بعض المصطلحات التي تخيف المسيحيين. وبما أن قانون الزواج المدني "الاختياري" يُربط بفكرة الإصلاح، يتحدثون عن إلغاء الطائفية السياسية.

جميل هذا الوطن الصغير الذي، وبعد 70 سنة على نيله الاستقلال، يحاول البعض التحايل على نظامه والبحث عن وسائل تسمح بزواج أبناء جماعاته المختلفة في مخلفات الانتداب. جميل هذا الوطن الذي يعترف أحد زعمائه بأن الانتداب الفرنسي ساهم في تقديم بعض الأفكار الإصلاحية المتقدمة على ما نسمعه اليوم.

يوماً بعد يوم، يكتشف اللبنانيون أنهم ليسوا سوى جماعات تشترك بالصدفة في إطار جغرافي مشترك. الدولة "المؤمنة" التي تؤدي فروض الإجلال لله تعالى، بحسب الدستور اللبناني ستتحول إلى وطن تشرّع قوانينه الزنى إن أُقر زواج مدني "اختياري" يسمح بتمتين الروابط الإجتماعية بين جماعاته. لا نضفي على الموضوع حماسةً. أحدهم قال إن الزواج المدني هو تشريع للزنى.

(ملاحظة: هذا المقال كُتب قبل موقفي مفتي الجمهورية وهيئة التبليغ في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. كتبته لموقع "المدن" الالكتروني الذي ظهر اليوم www.almodon.com)