صورة المدونة

صورة المدونة

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

حكمة "الشيعي الأعلى"

 أسلوب ومضمون البيان الصادر عن هيئة التبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بخصوص الزواج المدني يحرّض على قراءة متأنية له. فالهيئة التي ارتأت الابتعاد عن "ردود الفعل الحادة" قررت الإدلاء برأيها بهدوء لافت. قررت مواجهة الطرح "بمعالجات موضوعية".

تطرقت الهيئة إلى "اعتبارات" ثقافية أخلاقية، فقهية، حقوقية ووطنية تبرر رفض الزواج المدني. للهيئة ملء الحرية في "اعتباراتها" الثقافية والفقهية تماماً كما لكل لبناني حرية الاقتداء بثقافة أو بأخرى طالما أن هذه الحرية تُمارس ضمن إطار احترام القوانين اللبنانية. ببساطة، صارت ضرورية إزاحة السجال الدائر حول الزواج المدني من دائرة اللغو الساذج الذي يدّعي عدم تعارض هذا النوع من الزواجات مع الشرائع الإسلامية والمسيحية إلى مكانه الصحيح، أي إلى الحفاظ على تعددية ثقافية منفتحة وبناء المواطنة.

أما في ما تضمنه بيان الهيئة من اعتبارات حقوقية ووطنية، فيجب مساءلتها على ما ارتكبته من مغالطات قانونية وعلى فهمها الجامد للصيغة الوطنية اللبنانية وعلى تحويلها حريات الطوائف المصانة دستورياً إلى محاولة للهيمنة.

ادّعت الهيئة أن تشريع الزواج المدني "مخالف للعقد الاجتماعي" لا بل اعتبرت أن هذه "المخالفة" تستوجب إجماعاً وطنياً لكي لا تتحول إلى "انقلاب على الوطن". ولكي تبرر ادعاءاتها حوّلت نفسها، من دون حق، إلى مفسّر للدستور اللبناني. أصابت الهيئة في وضعها نظام الأحوال الشخصية في إطار المادة 9 من الدستور التي تنص على "حرية الاعتقاد" وتضمن "للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية". ولكنها شطت كثيراً عندما لم تفهم مضمون المادة التاسعة بالارتباط مع مضمون المادة العاشرة التي تنص على أنه "لا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة" من دون أن يعني هذا أنه ليس للدولة أن تنشىء مدارس رسمية ومن دون أن ينتقص من حق الدولة في تحديد "الأنظمة العامة".

بكلام آخر، حاولت هيئة التبليغ تحويل حقوق الطوائف المنصوص عليها دستورياً إلى محاولة للهيمنة على كلّ المجتمع اللبناني والقضاء على حركته وتجميده عند نقطة زمنية معيّنة. وفي مسعاها هذا استشهدت بمضمون القرار 60 ل.ر الصادر سنة 1936، بلا أن تلتفت إلى أن القرار رقم 53 الصادر في 30/3/1939 يلغي تطبيق القرار 60 ل.ر على المسلمين! لو كانت الهيئة قد تناولت شأنا فقهياً لكنّا قلنا إنها نالت أجر الاجتهاد ولكن بما أنها تناولت شأناً قانونياً فنقول إنها ارتكبت إثم الحكم بلا بيّنة.

أهمّ تحدٍّ أمام اللبنانيين هو إدارة تنوّعهم الثقافي بعيداً عن مشروعات الهيمنة الفئوية. إذا كان للطوائف حق عيشها ثقافتها في المجتمع اللبناني فإنه ممنوع عليها أن تقيّد مواطناً لبنانياً بنمط ثقافي معيّن على الرغم منه لأن في هذا انتهاك لحرياته الشخصية. انطلاقاً من هذا المبدأ، لا يحق للهيئة وصف المطالبين بالزواج المدني بأنهم "أقلية مختلقة غير محققة" ولا يحق لها أن تنعتهم بـ"الطائفة اللا دينية". فمطلب الزواج المدني وقانون الأحوال الشخصية المدني الاختياريين هما مطلبان عامان ينطبقان على جميع اللبنانيين الراغبين بهما أي أنهما مطلبان وطنيان يتجاوزان رؤية هيئة التبليغ للمواطنين كأبناء طوائف.

في بيانها استعادت الهيئة كلام السيد موسى الصدر عن دولة "علمانية مؤمنة" وطعّمته بكلام السيد حسن نصر الله عن مؤتمر وطني يناقش طبيعة العقد الإجتماعي اللبناني. فدعت "إلى خلق إطار حواري وطني يتولى معالجة مثل هذه الطروحات ومناقشة مدى انسجامها مع الدستور والعقد الاجتماعي اللبناني، أو مدى إمكانية تطوير العقد الإجتماعي ولكن بإجماع وطني". ولكنها حددت مسبقاً نتائج هذا الحوار عندما أشارت، في موقع آخر من بيانها نفسه، إلى حوار ينطلق من "ضرورة مواجهة طرح الزواج المدني"، وربطت في موقع ثالث بين هذا الحوار و"إلغاء الطائفية السياسية"!

كثيرة هي المآخذ التي يمكن تسجيلها على بيان هيئة التبليغ كمثل اعتبارها الزواج المدني فاقداً لـ"الحاضن الثقافي" وكتنبؤها بأن وصف قانون الأحوال الشخصية بالاختياري (وهو شيء غير موجود حالياً!) "يهدف إلى تمويه حقيقة أن الاختيار المتاح ابتداء لا يستتبع الاختيار استمراراً، بل يصبح المتعاقدان مدنياً ملزمين وخاضعين للنظام الحقوقي المدني ولا يتاح لهما العودة إلى النظام الديني".

الهيئة دعت من يريد التحدث عن الزواج المدني إلى أن يتحلى بـ"الحكمة". على أمل ألا يكون مفهومها للحكمة شبيهاً بحكمة الشيخ عبد الأمير قبلان في دعوته، قبل أيام، إلى "احتضان الشعب السوري لجيشه".

(مقال منشور في جريدة المدن الالكترونية في 2/2/2013. www.almodon.com)

ليست هناك تعليقات :