مع بداية الحلقة الثانية من مسلسل
اللجنة الفرعية الانتخابية، تتزاحم أسئلة كثيرة ولّدها إمعان القيادات السياسية
المارونية في الحديث عن "صحّة التمثيل المسيحي" غير آبهة بـ"صحّة
الوطن". أسئلة كثيرة تتزاحم وجلّها يتمحور حول فكرة أفول عهد الموارنة في
السياسة اللبنانية!
منذ تأسيس الدولة اللبنانية، غيّرت
وقائع كثيرة موقع اللبنانيين الموارنة في السلطة السياسية. بين الماضي
"الذهبي" والحاضر المفتوح على جملة متغيّرات لا يبدو أن الموارنة ما
زالوا قانعين بفكرة وطن لبناني يلعبون فيه دوراً ريادياً. فشل الموارنة في اكتساب
مرونة سياسية تواكب مرونة التحولات التي يشهدها الوطن الصغير.
آخر فصول تمظهر مأزق تفكيرهم كان
اجتماع اللجنة الرباعية المسيحية في بكركي وإحياء "تجمّع الخصوم" جثة
اقتراح اللقاء الأرثوذكسي حول قانون الانتخاب ثم رقصهم حولها في اجتماعات اللجنة
الفرعية الإنتخابية رغم اختلافاتهم. لم يكن إجماع بكركي المثير للجدل تجسيداً
لوحدة الطائفة التي تتوق إليها أغلبية المسيحيين على ما بيّن استطلاع للرأي أجري
مؤخراً. هو دليل على بروز قناعة مارونية مشتركة بضرورة حجز حصتهم في الوطن
لفقدانهم الثقة بإمكان أداء دور وطني على كامل مساحة الـ10452 كلم2. ما اتفق عليه
الموارنة في بكركي لا يعدو كونه إرادة اقتطاع نصف مجلس النواب اللبناني من الفضاء
اللبناني وتكريسه كفضاء مسيحي منفصل. يتخلى الموارنة عن إرادة الشراكة الحقيقية مع
المسلمين ويرفضون الاستمرار في العمل على إقناع الناخب المسلم بصوابية ما يطرحونه
على الصعيد الوطني.
كان على الموارنة، منذ وقت طويل، أن
يفهموا أن البقاع اللبناني لم يعد أهراءات لبنان وأن الجنوب اللبناني لم يعد جزءً
من الوطن وظيفته وصل بعض القرى المسيحية الحدودية النائية بجبل لبنان. كان عليهم،
منذ وقت طويل، أن يفهموا أن ارتفاع نسبة الولادات في الشمال اللبناني يولّد
مواطنين كاملي الأهلية لهم الحق بتحديد شكل لبنان. تأخروا ولم يفهموا ما يحصل
حولهم من متغيّرات. الآن، يريدون أخذ مسافة عن المجتمع اللبناني وتسجيل مكاسب خاصة
للمجتمع المسيحي.
ليس مهماً إمكان تمرير مشروع اللقاء
الأرثوذكسي في مجلس النواب (ولمرة واحدة فقط) أو عدمه، وليس مهماً أن توافقهم على
هذا الطرح يهدف إلى إحراج بعضهم البعض على الساحة المسيحية. المهم أنهم يجاهرون
برفضهم صوت الناخب المسلم، وفي هذا اعتراف منهم بعجزهم عن التواصل معه. المهم أنهم
يطرحون تمثيلهم في مجلس النواب بلا دنس الأصوات المسلمة حتى ولو كان طرحهم يؤدي
عملياً، ولأن المسيحيين هم ثلث اللبنانيين، إلى معادلة: كل مسيحي يساوي مسلمين.
صحيح أن المسيحيين يعانون للبنانيتهم
من آفات كثيرة تجد بيئتها في طوائف أخرى. لهم الحق في القلق من فوضى السلاح ومن
التشدد الديني الإسلامي. لهم الحق في الخشية من طوائف تشترك معهم في الوطن وتمتاز عنهم
بشبه أحادية في التمثيل وبمحيط إقليمي حاضن. ولكن صحيح أيضاً أن قياداتهم السياسية
تتشارك، بالتضامن والتكافل، مع القيادات السياسية المسلمة في فشل الدولة اللبنانية
واهترائها بسبب الفساد والمناصفة في الحرص على حجز حصص الطوائف من قالب الجبنة
اللبناني. المأزق اللبناني ليس نابعاً من خيارات الناخب المسلم.
في توافقهم على مشروع اللقاء
الأرثوذكسي يفضّل الموارنة شكلية المناصفة على المشاركة في بناء الوطن. صار للمسلم
المتطرّف الآن الحق في اقتراح احتساب صوت النائب المسلم صوتين مع المحافظة على
المناصفة! ليسجّل الموارنة على أنفسهم أنهم كانوا البادئين في إفراغ المناصفة من
مضامينها الجامعة.
لم يعد الموارنة يؤمنون بأنهم
"ملح لبنان". ما عادوا قانعين بالصيغة اللبنانية العابرة للطوائف. اتسعت
الصيغة اللبنانية عليهم بسبب هزلهم الديموغرافي وهم الآن يريدون رداءً ضيّقاً على
مقاسهم.
في بلد ديموقراطي تعددي، للموارنة
الحق في اقتراح صيغة العيش المشترك التي يريدون. ولكنهم منذ أن يقرروا جهاراً برغبتهم
في حجز حيّز خاص لا يشاركهم فيه المسلمون، عليهم تحقيقها بالمشاركة مع متطرفي
الطوائف الأخرى لا مع معتدليها. نحن نعيش آخر أيام الموارنة في السياسة الوطنية
الجامعة. ونشهد لحظة
تحوّل مطالب الموارنة إلى مطالبة بامتيازات للمسيحيين في السلطنة اللبنانية.
مقال منشور في جريدة المدن الالكترونية في 4/2/2013
www.almodon.com
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق