صورة المدونة

صورة المدونة

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

النزاع على الجيش

من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وشرقاً نحو البقاع قُطعت الطرقات وأشعلت الإطارات المطاطية وأطلقت المواقف "الوطنية" المستنكرة للإعتداء على الجيش اللبناني في قرية عرسال. لوهلة، يظنّ المتابع أن الالتفاف العابر للطوائف حول الجيش هو إما تكريس لحالة وطنية متأصلة أو، أقلّه، تعبير عن وحدة وطنية أبصرت النور أخيراً.

لا شك أن ما تعرّض له عناصر الجيش مدان وبشدّة خاصة وأن المؤسسة العسكرية هي من المؤسسات القليلة التي لا تزال تمتلك القدرة الرمزية على الإيحاء للمواطن اللبناني بأنه يعيش في دولة، لكن المسألة ليست هنا بل في التكاذب المفضوح الذي تنم عنه المواقف الرنّانة.

هو الجيش نفسه الذي قيل له عندما واجه إرهابيي فتح الإسلام بأن "مخيّم نهر البارد خط أحمر" وقيل إن فيه ضباطاً ذوي رتبة رفيعة "مندسّون" أثناء أحداث مار مخايل. هو الجيش نفسه ولكن نستطيع ملاحظة اختلاف مواقف أطراف عدّة حيال تعرّض إحدى دورياته لكمين في رياق أسفر عن سقوط أربعة من عناصرها وحيال الاعتداء الذي تعرّض له منذ أيام.

تعرف القوى التي تزايد بعضها على بعض بدعم الجيش أن مواقفها ليست مقنعة لجميع اللبنانيين. والتضامن مع مؤسسة الجيش، وإن اختلفت هوية المتضامنين بين حادثة وأخرى بحسب إمكانيات التأويل السياسي لما يتعرض له الجيش وكيفية الاستفادة منه في الإنقسام السياسي، يحمل دلالات كثيرة. فاللبنانيون جميعاً يتمسكون بفكرة الدولة اللبنانية ولا يريدون الطلاق العلني معها. ولكن، في الوقت عينه لا يستطيعون تصوّر هذه الدولة بلا غلبة أهلية. يتضامن المتضامنون مع الجيش إن كان المخلّ بالأمن هو "العدوّ" الداخلي. بتضامنهم يحاولون وضع أنفسهم، رمزياً، في موقع الوطني وهذا ما لا نلحظه إلا عندما تخدم فكرة "الوطنية" في المواجهة مع آخر في الداخل اللبناني.

هو نوع من صراع أهلي على مؤسسة وطنية. وإلا ما معنى التضامن بقطع الطرقات مع مؤسسة من واجباتها تأمين سلوك هذه الطرقات أمام المواطنين؟ ينجح الجيش في الحفاظ على رمزيته الجامعة لا بسبب قوته بل بسبب سيل دماء شهدائه على كل مفاصل النزاعات اللبنانية الأهلية. المستثمِر حيناً يغدو مستثمَراً في ساحته الأهلية حيناً آخر. ولكن هذه المعادلة لا تستمر إلا باستدامة سيل دماء عناصر الجيش! فهل هذا ما تريده القوى السياسية؟

دائماً، يتحدث من هم في موقع "وطني" ضعيف تجاه واقعة التعدي على الجيش اللبناني عن "تحقيقات شفافة ونزيهة" آملين أن يقعوا على واقعة ما تُخرجهم من حرجهم. يمهدون لذلك بموجة إشاعات تُشبع توق قواعدهم الأهلية إلى لعب دور الضحية. ودائماً ما يجد المستفيدون من الأحداث بلاغة "وطنية" لم يعتد عليها متابع مواقفهم ويستثمرون الحدث خطابياً إلى الحد الذي يعيق استعادة خصومهم ماء الوجه الوطني.
دون أن ننسى ما في هذا الميل من إشاحة للبصر أو من تبرؤ، إلى حين، من مواقف سابقة تناقض تلك الراهنة. وهنا يُستدعى الحلفاء لأن الإكثار يوحي بـ"الإجماع الوطني". حادثة عرسال، استنكرها، على سبيل المثال رئيس نقابة مكاتب السوق، حركة الأمة، بلدية صور...
حزب الله استنكر حادثة عرسال ورأى فيها "خطورة بالغة تمس هيبة الدولة وأمن الوطن بأكمله".

وجد الحزب مناسبة يستطيع معها عكس تهمة توجه إليه بشكل أساسي. هكذا هي السياسة في لبنان: مماحكات كلامية ومحاولات استثمار في التوازنات الأهلية، استثمار لا أفق واضحاً له. ثم يخرج وزير الداخلية مروان شربل طالباً "عدم إدخال السياسة في الموضوع" رغم أن الحادثة تتلبّسها السياسة بدءاً من تشكل الحالة التي اعتدت على دورية الجيش وصولاً إلى آخر موقف مرتبط بها!

كلّ يغنّي على ليلاه. اللقاء الأرثوذكسي غنّى على ليل اقتراحه لقانون الانتخابات فقرأ الحادثة على أساس احتمال كونها "بداية مسلسل قد تؤدي الى تأجيل الانتخابات النيابية". لكن السؤال الأصلي يقع في مكان آخر: متى ينتهي مسلسل النفاق اللبناني؟

(منشورة على موقع المدن www.almodon.com في 06/02/2013)

ليست هناك تعليقات :