لم يكن على اللبنانيين انتظار السجال الدائر حول الزواج المدني ليتنبهوا إلى الفوارق الكبيرة التي تبعدهم بعضهم عن بعض وتضعهم أمام حقيقة كونهم جماعات تتشارك رقعة جغرافية لا شعباً يمتلك حداً أدنى من المشتركات.
ليس مهماً، للأسف، رأي المدنيين في هذا السجال فالإنقسام اللبناني الحاد حصر حركتهم، منذ أمد بعيد، في هوامش المجتمع اللبناني. الأهم هو الاستجابات الطائفية لهذه الفكرة التي تطل برأسها من حين إلى آخر وكأنها خجلة من ظهورها في زحمة الصراخ حول حقوق الطوائف.
ترفض القوى القيّمة دينياً وسياسياً على أبناء الجماعات اللبنانية التخلي عن حقها الحصري في إدارة شؤونهم لصالح إطار أوسع كي لا يذوب جزء منهم فيه ويخرج عن سيطرتها. تمارس الجماعة العنف الرمزي والمادي على أفرادها كي لا يخرجوا عن "إجماعها". لا تقبل بترك الخيار لهم لأنها أسيرة الشك بهم ودائمة القلق من تفسخ الجماعة تحت وطأة حرية الخيار المخيفة.
هذه هي أسباب رفض الجماعات الطائفية للزواج المدني "الإختياري". هي لا تقبل بتوسيع الحيّز الذي تديره الدولة لأن توسعه يتساوق مع انحسارها. في السجالات الأخيرة حول الزواج المدني "الاختياري" ظهرت تصريحات كثيرة مؤيدة له بلا شروط، اشترك مطلقوها في كون معظمهم مسيحيين ربطوا تأييدهم للفكرة بكونها تعزز العيش المشترك او تساهم في تخطي الحالة الطائفية وفي استكمال الدولة المدنية. من الغرابة بمكان مجيء هذه الفكرة من بيئة احتضنت مشروع اللقاء الأرثوذكسي ويرفض بعض ممثليها بيع أراضي المسيحيين لمسلمين وتدير إحدى مؤسساتها الدينية الكبيرة مشروعاً هدفه التشجيع على زيادة الإنجاب لتصحيح الخلل الديموغرافي في لبنان. ولكن، رغم ذلك، يبدو أن المسيحيين يقبلون بتنظيم جماعتهم في ظل منح الأفراد حرية الخيار.
في كل الحالات، يعلم المسيحيون أن الزواج المدني "الاختياري" مرفوض من شريكهم المسلم في الوطن ما يمنحهم هامش مناورة كبيراً نظراً إلى انسداد الأفق وبُعد لحظة الحقيقة. المسلمون، وخاصة السنّة منهم، لم يخيبوا، كما لم يخيّبوا يوماً ظنّ المترددين. انبروا إلى مهاجمة طرح الفكرة حباً منهم بالظهور بمظهر حامي الشريعة. يدعون أن هذا الطرح فيه افتئات على الشريعة. أحدهم تمنّى ألا يخيّر اللبنانيون بين الدين والوطن. وبطبيعة الحال، كي لا يرفضوا الوطن! الملفت في الأمر هو ظهور هيئات وشخصيات سنية لا نسمع بها إلا حين طرح الأفكار المدنية أو حين ضرورة وقوف السنّة في وجه محاولات تشويه التاريخ العثماني في لبنان. واللطيف هو دعوة البعض إلى عدم طرح مشاريع فتنة لأن ضرورات مواجهة العدو الصهيوني تقتضي الوحدة. والألطف هو إسهام حزب النجادة في الإجماع الرافض، هذا الحزب الذي صادفناه لآخر مرّة في كتب التاريخ على بعض المتاريس المنصوبة في البسطة أثناء أحداث 1958!
المسيحيون يقبلون بالزواج المدني "الاختياري" وهم على يقين بأن المسلمين سيرفضونه. الدروز يدعمون الطرح توقاً إلى دولة مدنية تحررهم من تحديد دورهم وفق عددهم ويراهنون على قوة العادات الاجتماعية لعدم الذوبان. الشيعة يفضلون السكوت تاركين مهمة الرفض للسنّة، وإن افترب الاستحقاق لن يبخلوا على الشريعة بالدعم. على الساحة السنية، لا مكان للوسطية في هذا الموضوع. أثبت الرئيس نجيب ميقاتي هذه الحقيقة في مجلس الوزراء.
لا يطلب رافضو الزواج المدني "الاختياري" من مؤيديه تفهم هواجسهم. هذا ليس من شيم الرجولة الطائفية في لبنان. يقومون بهجوم مضاد مفاده تضمين كلامهم الرافض بعض المصطلحات التي تخيف المسيحيين. وبما أن قانون الزواج المدني "الاختياري" يُربط بفكرة الإصلاح، يتحدثون عن إلغاء الطائفية السياسية.
جميل هذا الوطن الصغير الذي، وبعد 70 سنة على نيله الاستقلال، يحاول البعض التحايل على نظامه والبحث عن وسائل تسمح بزواج أبناء جماعاته المختلفة في مخلفات الانتداب. جميل هذا الوطن الذي يعترف أحد زعمائه بأن الانتداب الفرنسي ساهم في تقديم بعض الأفكار الإصلاحية المتقدمة على ما نسمعه اليوم.
يوماً بعد يوم، يكتشف اللبنانيون أنهم ليسوا سوى جماعات تشترك بالصدفة في إطار جغرافي مشترك. الدولة "المؤمنة" التي تؤدي فروض الإجلال لله تعالى، بحسب الدستور اللبناني ستتحول إلى وطن تشرّع قوانينه الزنى إن أُقر زواج مدني "اختياري" يسمح بتمتين الروابط الإجتماعية بين جماعاته. لا نضفي على الموضوع حماسةً. أحدهم قال إن الزواج المدني هو تشريع للزنى.
(ملاحظة: هذا المقال كُتب قبل موقفي مفتي الجمهورية وهيئة التبليغ في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. كتبته لموقع "المدن" الالكتروني الذي ظهر اليوم www.almodon.com)
ليس مهماً، للأسف، رأي المدنيين في هذا السجال فالإنقسام اللبناني الحاد حصر حركتهم، منذ أمد بعيد، في هوامش المجتمع اللبناني. الأهم هو الاستجابات الطائفية لهذه الفكرة التي تطل برأسها من حين إلى آخر وكأنها خجلة من ظهورها في زحمة الصراخ حول حقوق الطوائف.
ترفض القوى القيّمة دينياً وسياسياً على أبناء الجماعات اللبنانية التخلي عن حقها الحصري في إدارة شؤونهم لصالح إطار أوسع كي لا يذوب جزء منهم فيه ويخرج عن سيطرتها. تمارس الجماعة العنف الرمزي والمادي على أفرادها كي لا يخرجوا عن "إجماعها". لا تقبل بترك الخيار لهم لأنها أسيرة الشك بهم ودائمة القلق من تفسخ الجماعة تحت وطأة حرية الخيار المخيفة.
هذه هي أسباب رفض الجماعات الطائفية للزواج المدني "الإختياري". هي لا تقبل بتوسيع الحيّز الذي تديره الدولة لأن توسعه يتساوق مع انحسارها. في السجالات الأخيرة حول الزواج المدني "الاختياري" ظهرت تصريحات كثيرة مؤيدة له بلا شروط، اشترك مطلقوها في كون معظمهم مسيحيين ربطوا تأييدهم للفكرة بكونها تعزز العيش المشترك او تساهم في تخطي الحالة الطائفية وفي استكمال الدولة المدنية. من الغرابة بمكان مجيء هذه الفكرة من بيئة احتضنت مشروع اللقاء الأرثوذكسي ويرفض بعض ممثليها بيع أراضي المسيحيين لمسلمين وتدير إحدى مؤسساتها الدينية الكبيرة مشروعاً هدفه التشجيع على زيادة الإنجاب لتصحيح الخلل الديموغرافي في لبنان. ولكن، رغم ذلك، يبدو أن المسيحيين يقبلون بتنظيم جماعتهم في ظل منح الأفراد حرية الخيار.
في كل الحالات، يعلم المسيحيون أن الزواج المدني "الاختياري" مرفوض من شريكهم المسلم في الوطن ما يمنحهم هامش مناورة كبيراً نظراً إلى انسداد الأفق وبُعد لحظة الحقيقة. المسلمون، وخاصة السنّة منهم، لم يخيبوا، كما لم يخيّبوا يوماً ظنّ المترددين. انبروا إلى مهاجمة طرح الفكرة حباً منهم بالظهور بمظهر حامي الشريعة. يدعون أن هذا الطرح فيه افتئات على الشريعة. أحدهم تمنّى ألا يخيّر اللبنانيون بين الدين والوطن. وبطبيعة الحال، كي لا يرفضوا الوطن! الملفت في الأمر هو ظهور هيئات وشخصيات سنية لا نسمع بها إلا حين طرح الأفكار المدنية أو حين ضرورة وقوف السنّة في وجه محاولات تشويه التاريخ العثماني في لبنان. واللطيف هو دعوة البعض إلى عدم طرح مشاريع فتنة لأن ضرورات مواجهة العدو الصهيوني تقتضي الوحدة. والألطف هو إسهام حزب النجادة في الإجماع الرافض، هذا الحزب الذي صادفناه لآخر مرّة في كتب التاريخ على بعض المتاريس المنصوبة في البسطة أثناء أحداث 1958!
المسيحيون يقبلون بالزواج المدني "الاختياري" وهم على يقين بأن المسلمين سيرفضونه. الدروز يدعمون الطرح توقاً إلى دولة مدنية تحررهم من تحديد دورهم وفق عددهم ويراهنون على قوة العادات الاجتماعية لعدم الذوبان. الشيعة يفضلون السكوت تاركين مهمة الرفض للسنّة، وإن افترب الاستحقاق لن يبخلوا على الشريعة بالدعم. على الساحة السنية، لا مكان للوسطية في هذا الموضوع. أثبت الرئيس نجيب ميقاتي هذه الحقيقة في مجلس الوزراء.
لا يطلب رافضو الزواج المدني "الاختياري" من مؤيديه تفهم هواجسهم. هذا ليس من شيم الرجولة الطائفية في لبنان. يقومون بهجوم مضاد مفاده تضمين كلامهم الرافض بعض المصطلحات التي تخيف المسيحيين. وبما أن قانون الزواج المدني "الاختياري" يُربط بفكرة الإصلاح، يتحدثون عن إلغاء الطائفية السياسية.
جميل هذا الوطن الصغير الذي، وبعد 70 سنة على نيله الاستقلال، يحاول البعض التحايل على نظامه والبحث عن وسائل تسمح بزواج أبناء جماعاته المختلفة في مخلفات الانتداب. جميل هذا الوطن الذي يعترف أحد زعمائه بأن الانتداب الفرنسي ساهم في تقديم بعض الأفكار الإصلاحية المتقدمة على ما نسمعه اليوم.
يوماً بعد يوم، يكتشف اللبنانيون أنهم ليسوا سوى جماعات تشترك بالصدفة في إطار جغرافي مشترك. الدولة "المؤمنة" التي تؤدي فروض الإجلال لله تعالى، بحسب الدستور اللبناني ستتحول إلى وطن تشرّع قوانينه الزنى إن أُقر زواج مدني "اختياري" يسمح بتمتين الروابط الإجتماعية بين جماعاته. لا نضفي على الموضوع حماسةً. أحدهم قال إن الزواج المدني هو تشريع للزنى.
(ملاحظة: هذا المقال كُتب قبل موقفي مفتي الجمهورية وهيئة التبليغ في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. كتبته لموقع "المدن" الالكتروني الذي ظهر اليوم www.almodon.com)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق