لا تزال قضية المفقودين خلال الحرب الأهلية موضوعاً يحفّز المخرجين اللبنانيين على تناوله. آخر العنقود فيلم وثائقي طويل لإليان الراهب بعنوان "ليال بلا نوم"، الذي يعرض جانباً آخر من مأساة قديمة ـ متجدّدة، وينجح في تحفيزنا على التبصّر بعلاقة حاضرنا بحربنا الماضية.
إمرأة وقصة
يدور سيناريو الفيلم و"استقصاءات" مخرجته حول قصة اختفاء ماهر قصير. ماهر هو أحد آلاف المفقودين خلال الحرب الأهلية. في 17 حزيران 1982، كان الفتى البالغ من العمر 15 عاماً أحد 24 مقاتلاً شيوعياً يتمركزون في مبنى كلية العلوم في الحدث. تعرضت المجموعة لهجوم شنّته القوات اللبنانية عليهم. من لم يستطع الفرار قتل أو فقد أثره
.
لإعادة تركيب المشهد، تتحدث المخرجة مع قائد المجموعة الشيوعية شوقي حسّان. لا يضيف أيّة معلومة أساسية. أسعد شفتري (الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات القواتي) يكتفي بالقول إن الموجودين إما قتلوا أو اعتقلوا وبعدها تم إرسالهم إلى "مكان نهائي". يدّعي أن المعلومات التفصيلية لا تعرفها سوى العناصر التنفيذية الصغيرة! الياس عطاالله (القائد العسكري لـ"جبهة المقاومة الوطنية") يصوّر نفسه كصاحب ذاكرة لا تتسع لصغائر الأمور! وحده أحد مقاتلي القوات المشاركين في المعركة يكشف أن كل من لم يتمكن من الفرار قتل فوراً.
الفيلم ليس عملاً استقصائياً. الاستقصاءات هي تفاصيله المكمّلة. اختارت المخرجة التركيز على معاناة مريم السعيدي، والدة ماهر، وسعيها إلى كشف مصير ابنها. وفي مقابلها تركت لأسعد شفتري دور مجرم الحرب.
لا توازن في المشهدية. ضحيّة في مقابل تائب يرفض التطرق إلى التفاصيل لا تصنع "الفيلم" الذي نتمناه. هكذا مواجهة لا يمكن لها أن تنتج سوى صرخة في مواجهة مقولة: أنا أعتذر رغم أن لا علاقة لي بسبب مأساتك بالذات. من الطبيعي أن الراهب لم تجد مجرم حرب يقبل الحديث سوى شفتري. كثرة "الركّ" عليه قلّلت كثيراً من أهمية اعتذاره البالغ الشجاعة.
ذهنية الحرب المستمرة
الانغلاق الثقافي وعدم معرفة الآخر يسهلان عملية شيطنته. عندما يتحول الآخر إلى "خائن" يصير قتله مباحاً وتقع الحرب. هذا ما يقوله شفتري، ولكن زرعه لا يجد التربة المناسبة لنموّه.
كل شيء يوحي بأن النقد الذاتي الذي أجراه شفتري هو الاستثناء. القاعدة هي أن اللبنانيين ما زالوا يبررون لأنفسهم سلوكياتهم خلال الحرب. "كان يدافع عن نفسه. كنا ندافع عن أنفسنا"، يقول والده. قام أسعد بما قام به "كي لا يحتل الفلسطينيون البلد"، تقول والدته.
ينظر إيلي أسعد شفتري إلى صور والده بين بيار وبشير الجميل وإيلي حبيقة وآخرين ويعلّق بإعجاب: "انظري من كان بجانبه. هناك فرق في الثقافة والمعرفة بين جيلي وجيلهم". رموز الحرب هم في الوقت عينه رموز الدفاع عن وجود الطائفة. بين اللبنانيين والحرب ورموزها علاقة حب قويّة.
في الفيلم مشهد فائق الأهمية يكشف زيف وهم لبناني متفشٍّ. إنه ادّعاء وجود عيش مشترك متين بين اللبنانيين قبل الحرب. بينما يسترسل والد أسعد شفتري في الحديث عن العلاقة المتينة التي كانت لعائلته مع أصدقاء دروز ينظر إليه أسعد ويقول: "لم تكن لديكم علاقات مع مسلمين". يتبيّن لنا أن منشأ وهم والده هو زيارة معزولة لرجل درزي أتى للسؤال عن إيجار منزل!
الحرب هي الانتماء لجماعة وهي تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن. أسعد نفسه يرفض الحديث عن تنسيق القواتيين مع الاسرائيليين عام 1982 "لأن هناك أسرار حزب وطائفة ومذهب"، ويرفض الإدلاء بما يعرفه من معلومات لأنها "ستؤذي المجتمع الذي أنتمي إليه". لا يجب لومه. النقد الذاتي للمشاركة في الحرب وكشف خباياها لا يجب إلقاؤه على طرف واحد كي لا يبدو الآخرون كأبرياء! هذه الشجاعة يجب أن تكون جماعية.
لتخطي الحرب ينبغي التطهّر من آثامها. لا يمكن أن يتم ذلك من دون الاعتراف بالخطأ ورواية كل طرف لممارساته والتبرؤ منها وتقديم الاعتذار لضحاياه. في الحرب الأهلية لا يوجد مجرم يقابل ضحية. كل مشارك في الحرب يجمع، في الآن ذاته، هاتين الصفتين.
شفتري امتلك الشجاعة منذ عام 2000 واقتنع بأنه سيتحوّل إلى مجرم مرة ثانية لو لم يوصل قناعته بلا جدوى الحرب إلى الناس. قدّم اعتذاره للبنانيين كمجرم. افتتح المسار الواجب لتخطي الحرب ولكن لم يقابل أحد خطوته بمثلها. حتى ابنه ينتقد ضمنياً سلوكه. لا يعجبه صدور "أوفر اعتذارات" عنه ويرى أن الاعتذار مرة واحدة يكفي.
أسعد يعتذر. مريم تخبرنا عن عذاب ثلاثين سنة قضتها مع خيالات تتصوّر فيها ابنها وهو يُعذّب. مريم ضحيةٌ مطلوبٌ إنصافها. ألكسندرا عسيلي تقول إنه يجب علينا تجاوز التفكير بأنفسنا كضحايا. نصيحتها لا تكفي. تأتي من الكتب ومن خارج السياق اللبناني. المسألة ليست بهذه البساطة. ولكن... وزر الحرب لا يقع على عاتق شفتري. هو الوحيد الذي مارس اعترافاً تطهرياً. ماذا عن الباقين؟
الحرب كقالب روائي
الحرب في أحد أشكالها هي القالب الروائي الذي نضع فيه الأحداث. لتخطيها يجب تفكيك رواياتنا بأبطالها ومجرميها وضحاياها وصياغة رواية جديدة، رواية حقيقية أكثر.
منذ بداية الوثائقي، تضع المخرجة الحرب في إطار صراع "اليمين المسيحي المتطرف" مع اليسار و"الحركة الوطنية". هل صحيح أن حربنا هي حرب اليمين واليسار؟ هذه "الخدعة" تحتاج إلى إعادة نظر.
في أحد مشاهد الفيلم، تواجه المخرجة بين أسعد ومريم. ليس لدى أسعد ما يقوله لها. مريم تصاب بنوبة عصبية. تطلق صرخة ألم تطالب بمعرفة مصير ابنها وترفض الحديث مع أسعد. تقول: "إبني مثال الشباب الوطني اللبناني... ترك الغيتار والدربكة والكتاب. هيك بيكون الشباب يللي بدو يبني وطن... إنتو جماعة بعتو كل شي". هو مشهد تتقابل فيه الأنا التي على صواب والآخر المخطئ. لم نقم بعملية إزاحة لمحور تفكيرنا في حربنا الأهلية. نروي الحرب كما خضناها. لغة السلم هي نفسها لغة الحرب.
الأسوأ هو التوجّه الذي يبديه إلياس عطالله. تسألة المخرجة عن معركة كلية العلوم فيجيب "نسيناها". هكذا يفهم تخطي ماضي الحرب لبناء تحالفات مع "الأعداء" القدماء! التجاهل والإنكار هو نهج الجميع. لذلك لا يفصلنا عن حربنا سوى غشاء من الوهم.
بحثاً عن معلومات حول ماهر، تتوجه المخرجة ومريم إلى أرشيف جريدة النداء الشيوعية. هناك يلتقيان المسؤول عن توضيب الصحف. أمام الموظف تهاجم مريم الحزب وتتهمه ببيع شهدائه، ولكن، لا أحد منهما يقاطع عضوة المكتب السياسي في الحزب ماري الدبس وهي تتحدث عن مناقبية الحزب. ببساطة، هذا غير مبرّر.
من نقاط الفيلم الإيجابية، على مستوى الذاكرة، هو الحديث عن شفتري وعائلته كضحايا. ولكن يصوّران كضحايا بعد هزيمتهما العسكرية وتهجيرهم إلى زحلة. مرّة جديدة نقع في مأزق المماهاة بين الضحية والمهزوم.
يبدأ الفيلم مع أسعد شفتري في كلية العلوم. يقول: "بعد كل مرّة أتحدث فيها عن الحرب أحتاج إلى أسبوعين لكي أشفى، أسبوعين مليئين بالقلق وليال بلا نوم". أسعد يقلق ولكن غيره ينام قرير العينين. لهذا بالضبط لم نتجاوز حربنا.
نشر في www.mmedia.me في 15/4/2013