صورة المدونة

صورة المدونة

الثلاثاء، 16 أبريل 2013

"ليالٍ بلا نوم": ربّيت ولدي ١٥ عاماً وفقدته ٣٠ ـ الحرب الأهلية مستمرة بأشكال مختلفة



لا تزال قضية المفقودين خلال الحرب الأهلية موضوعاً يحفّز المخرجين اللبنانيين على تناوله. آخر العنقود فيلم وثائقي طويل لإليان الراهب بعنوان "ليال بلا نوم"، الذي يعرض جانباً آخر من مأساة قديمة ـ متجدّدة، وينجح في تحفيزنا على التبصّر بعلاقة حاضرنا بحربنا الماضية.

إمرأة وقصة

يدور سيناريو الفيلم و"استقصاءات" مخرجته حول قصة اختفاء ماهر قصير. ماهر هو أحد آلاف المفقودين خلال الحرب الأهلية. في 17 حزيران 1982، كان الفتى البالغ من العمر 15 عاماً أحد 24 مقاتلاً شيوعياً يتمركزون في مبنى كلية العلوم في الحدث. تعرضت المجموعة لهجوم شنّته القوات اللبنانية عليهم. من لم يستطع الفرار قتل أو فقد أثره 
.
لإعادة تركيب المشهد، تتحدث المخرجة مع قائد المجموعة الشيوعية شوقي حسّان. لا يضيف أيّة معلومة أساسية. أسعد شفتري (الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات القواتي) يكتفي بالقول إن الموجودين إما قتلوا أو اعتقلوا وبعدها تم إرسالهم إلى "مكان نهائي". يدّعي أن المعلومات التفصيلية لا تعرفها سوى العناصر التنفيذية الصغيرة! الياس عطاالله (القائد العسكري لـ"جبهة المقاومة الوطنية") يصوّر نفسه كصاحب ذاكرة لا تتسع لصغائر الأمور! وحده أحد مقاتلي القوات المشاركين في المعركة يكشف أن كل من لم يتمكن من الفرار قتل فوراً.

الفيلم ليس عملاً استقصائياً. الاستقصاءات هي تفاصيله المكمّلة. اختارت المخرجة التركيز على معاناة مريم السعيدي، والدة ماهر، وسعيها إلى كشف مصير ابنها. وفي مقابلها تركت لأسعد شفتري دور مجرم الحرب.

لا توازن في المشهدية. ضحيّة في مقابل تائب يرفض التطرق إلى التفاصيل لا تصنع "الفيلم" الذي نتمناه. هكذا مواجهة لا يمكن لها أن تنتج سوى صرخة في مواجهة مقولة: أنا أعتذر رغم أن لا علاقة لي بسبب مأساتك بالذات. من الطبيعي أن الراهب لم تجد مجرم حرب يقبل الحديث سوى شفتري. كثرة "الركّ" عليه قلّلت كثيراً من أهمية اعتذاره البالغ الشجاعة.

ذهنية الحرب المستمرة

الانغلاق الثقافي وعدم معرفة الآخر يسهلان عملية شيطنته. عندما يتحول الآخر إلى "خائن" يصير قتله مباحاً وتقع الحرب. هذا ما يقوله شفتري، ولكن زرعه لا يجد التربة المناسبة لنموّه.

كل شيء يوحي بأن النقد الذاتي الذي أجراه شفتري هو الاستثناء. القاعدة هي أن اللبنانيين ما زالوا يبررون لأنفسهم سلوكياتهم خلال الحرب. "كان يدافع عن نفسه. كنا ندافع عن أنفسنا"، يقول والده. قام أسعد بما قام به "كي لا يحتل الفلسطينيون البلد"، تقول والدته.

ينظر إيلي أسعد شفتري إلى صور والده بين بيار وبشير الجميل وإيلي حبيقة وآخرين ويعلّق بإعجاب: "انظري من كان بجانبه. هناك فرق في الثقافة والمعرفة بين جيلي وجيلهم". رموز الحرب هم في الوقت عينه رموز الدفاع عن وجود الطائفة. بين اللبنانيين والحرب ورموزها علاقة حب قويّة.

في الفيلم مشهد فائق الأهمية يكشف زيف وهم لبناني متفشٍّ. إنه ادّعاء وجود عيش مشترك متين بين اللبنانيين قبل الحرب. بينما يسترسل والد أسعد شفتري في الحديث عن العلاقة المتينة التي كانت لعائلته مع أصدقاء دروز ينظر إليه أسعد ويقول: "لم تكن لديكم علاقات مع مسلمين". يتبيّن لنا أن منشأ وهم والده هو زيارة معزولة لرجل درزي أتى للسؤال عن إيجار منزل!

الحرب هي الانتماء لجماعة وهي تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن. أسعد نفسه يرفض الحديث عن تنسيق القواتيين مع الاسرائيليين عام 1982 "لأن هناك أسرار حزب وطائفة ومذهب"، ويرفض الإدلاء بما يعرفه من معلومات لأنها "ستؤذي المجتمع الذي أنتمي إليه". لا يجب لومه. النقد الذاتي للمشاركة في الحرب وكشف خباياها لا يجب إلقاؤه على طرف واحد كي لا يبدو الآخرون كأبرياء! هذه الشجاعة يجب أن تكون جماعية.

"دوز" التطهّر من الآثام

لتخطي الحرب ينبغي التطهّر من آثامها. لا يمكن أن يتم ذلك من دون الاعتراف بالخطأ ورواية كل طرف لممارساته والتبرؤ منها وتقديم الاعتذار لضحاياه. في الحرب الأهلية لا يوجد مجرم يقابل ضحية. كل مشارك في الحرب يجمع، في الآن ذاته، هاتين الصفتين.

شفتري امتلك الشجاعة منذ عام 2000 واقتنع بأنه سيتحوّل إلى مجرم مرة ثانية لو لم يوصل قناعته بلا جدوى الحرب إلى الناس. قدّم اعتذاره للبنانيين كمجرم. افتتح المسار الواجب لتخطي الحرب ولكن لم يقابل أحد خطوته بمثلها. حتى ابنه ينتقد ضمنياً سلوكه. لا يعجبه صدور "أوفر اعتذارات" عنه ويرى أن الاعتذار مرة واحدة يكفي.

أسعد يعتذر. مريم تخبرنا عن عذاب ثلاثين سنة قضتها مع خيالات تتصوّر فيها ابنها وهو يُعذّب. مريم ضحيةٌ مطلوبٌ إنصافها. ألكسندرا عسيلي تقول إنه يجب علينا تجاوز التفكير بأنفسنا كضحايا. نصيحتها لا تكفي. تأتي من الكتب ومن خارج السياق اللبناني. المسألة ليست بهذه البساطة. ولكن... وزر الحرب لا يقع على عاتق شفتري. هو الوحيد الذي مارس اعترافاً تطهرياً. ماذا عن الباقين؟

الحرب كقالب روائي

الحرب في أحد أشكالها هي القالب الروائي الذي نضع فيه الأحداث. لتخطيها يجب تفكيك رواياتنا بأبطالها ومجرميها وضحاياها وصياغة رواية جديدة، رواية حقيقية أكثر.

منذ بداية الوثائقي، تضع المخرجة الحرب في إطار صراع "اليمين المسيحي المتطرف" مع اليسار و"الحركة الوطنية". هل صحيح أن حربنا هي حرب اليمين واليسار؟ هذه "الخدعة" تحتاج إلى إعادة نظر.

في أحد مشاهد الفيلم، تواجه المخرجة بين أسعد ومريم. ليس لدى أسعد ما يقوله لها. مريم تصاب بنوبة عصبية. تطلق صرخة ألم تطالب بمعرفة مصير ابنها وترفض الحديث مع أسعد. تقول: "إبني مثال الشباب الوطني اللبناني... ترك الغيتار والدربكة والكتاب. هيك بيكون الشباب يللي بدو يبني وطن... إنتو جماعة بعتو كل شي". هو مشهد تتقابل فيه الأنا التي على صواب والآخر المخطئ. لم نقم بعملية إزاحة لمحور تفكيرنا في حربنا الأهلية. نروي الحرب كما خضناها. لغة السلم هي نفسها لغة الحرب.

الأسوأ هو التوجّه الذي يبديه إلياس عطالله. تسألة المخرجة عن معركة كلية العلوم فيجيب "نسيناها". هكذا يفهم تخطي ماضي الحرب لبناء تحالفات مع "الأعداء" القدماء! التجاهل والإنكار هو نهج الجميع. لذلك لا يفصلنا عن حربنا سوى غشاء من الوهم.

بحثاً عن معلومات حول ماهر، تتوجه المخرجة ومريم إلى أرشيف جريدة النداء الشيوعية. هناك يلتقيان المسؤول عن توضيب الصحف. أمام الموظف تهاجم مريم الحزب وتتهمه ببيع شهدائه، ولكن، لا أحد منهما يقاطع عضوة المكتب السياسي في الحزب ماري الدبس وهي تتحدث عن مناقبية الحزب. ببساطة، هذا غير مبرّر.

من نقاط الفيلم الإيجابية، على مستوى الذاكرة، هو الحديث عن شفتري وعائلته كضحايا. ولكن يصوّران كضحايا بعد هزيمتهما العسكرية وتهجيرهم إلى زحلة. مرّة جديدة نقع في مأزق المماهاة بين الضحية والمهزوم.

يبدأ الفيلم مع أسعد شفتري في كلية العلوم. يقول: "بعد كل مرّة أتحدث فيها عن الحرب أحتاج إلى أسبوعين لكي أشفى، أسبوعين مليئين بالقلق وليال بلا نوم". أسعد يقلق ولكن غيره ينام قرير العينين. لهذا بالضبط لم نتجاوز حربنا.

 نشر في www.mmedia.me في 15/4/2013

"الجدد" قادمون



"انتهى عصر الجهل بالسياسة وبدأ عصر المعرفة بالسياسة. انتهى عصر القدامى وبدأ عصر الجدد. انطلقت قافلة الجدد ولن تتوقف". هكذا ختم "تحالف المرشحين/ات الجدد" بيانهم السياسي الذي أعلن عن انطلاق "تحالف انتخابي وسياسي جديد في البلاد"، وذلك في مؤتمر صحافي عقد في نادي الصحافة.
 
كالعادة في كل مؤتمر صحافي، اصطف بعض الأشخاص للنطق بالرسالة المراد توجيهها. اعتلى المنصة أربعة أشخاص: "الجدد" المرشحون للانتخابات النيابية نادين موسى وحكمت البعيني ورندى يسير و"الجديد" غير المرشح جيلبير ضومط.
 
في الصفوف الأمامية للقاعة الصغيرة جلس باقي "الجدد". وكالعادة تأخروا عن موعد الدعوة. انبرى ضومط لتبرير التأخير. "الجدد منظمون أكثر من القدامى"، قال ضاحكاً وأردف: "بسيطة، بعض التشريعات تأخر في أدراج مجلس النواب حوالى 12 سنة".
 
تقاسم المتحدثون تلاوة البيان السياسي. أعلنوا انطلاق تحالف "يضم أكثر من خمسين مرشحاً مستقلاً قرروا خوض الانتخابات النيابية المقبلة بعيداً من... لوائح الزعامات التقليدية وائتلافات الأحزاب الطائفية".
 
في الحقيقة، المرشحون أقل من 50. هذا ما تبيّن من تلاوة أسمائهم في ختام المؤتمر. وأيضاً، بعض المرشحين لم يتقدموا بترشيحاتهم بعد. ولكن أخبرونا بأن "أعداد المرشحين/ات الجدد تتزايد يوماً بعد يوم لتشكل ظاهرة تاريخية لم يشهدها لبنان من قبل. إنهم الجدد القادمون من كل الطوائف والمناطق لتغيير قواعد اللعبة".
 
أعطوا أنفسهم أملاً. قرأوا في تحالفهم الذي وصفوه بأنه "حدث فريد من نوعه" وجود "دلالات وطنية تؤكد على أن هناك بديلاً جدياً قادراً على التغيير". انتقدوا عمليات تمديد وتعليق المهل القانونية معتبرين أنها "بمثابة انقلاب على النظام الديموقراطي في البلاد وتحوير من قبل مجلس النواب سلطة التشريع للمصلحة العامة إلى سلطة يستفيدون منها لمصالحهم الشخصية".
 
شحنوا خطابهم بقيم وطنية فرفضوا "رفضاً قاطعاً تمويل حملاتهم الإنتخابية بأموال غير لبنانية". وبالرغم من أنهم ليسوا سوى مرشحين رفضوا "اللجوء إلى السفارات والحكومات العربية والأجنبية لضمان استمرارهم في المجلس النيابي".
 
فكرة التحالف خرجت من رحم اجتماعات يعقدها منذ مدّة بعض الجمعيات والشخصيات المستقلة. المشترك بينهم هو مطالبتهم بضرورة تغيير النظام الطائفي في لبنان واستبداله بدولة مدنية. لا يتخذ التحالف شكل اللائحة العابرة للمناطق والطوائف. الانقسامات بين أعضائه لا يمكن أن تسمح بالاتفاق على مشروع سياسي مفصّل يتجاوز العموميات.
 
لذلك أعلنوا أن تحالفهم "يحفظ لكل مرشح أو مرشحة الحق في الترشح عن برنامج سياسي خاص شرط الالتزام بعدم الإنضمام إلى لوائح انتخابية وتحالفات سياسية تتعارض مع مبادئ التحالف وأهدافه أو العمل على تقويض المسلمات التي تعهّد بها أعضاء هذا التحالف". ودعوا اللبنانيين إلى الإنضمام إليهم كداعمين أو كمرشحين.
 
بعض "مسلّمات" التحالف شديد العمومية. يتحدثون عن فشل النظام الطائفي في تأمين وتوفير حقوق المواطن "الطبيعية". ويطالبون بدولة مدنية ويُجمعون على مكافحة الفساد وتأمين المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة ويتعهّدون بتأمين العدالة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للجميع.
 
بعض "المسلّمات" الآخر أقل عمومية كمناداتهم بقانون انتخابات عادل ونسبي وخارج القيد الطائفي وبإقرار قانون حماية المرأة من العنف الأسري ومنحها حق إعطاء الجنسية لأولادها وبتأمين التغطية الصحية الشاملة واسترداد الأملاك العامة وبتوفير حقوق العمال الأجانب وحقوق اللاجئين.
 
يقدّم التحالف نفسه على أنه "تحالف انتخابي وسياسي يضم بالإضافة إلى المرشحين/ات أنفسهم، مجموعة من اللجان المتخصصة في قضايا الشأن العام وخبراء في مجال السياسة والقانون والاقتصاد والبيئة".
 
في نهاية المؤتمر الصحافي حضر المحامي ماجد فياض. تحدث مع بعض أعضاء التحالف في مسألة تمديد وتعليق المهل القانونية الواردة في قانون الانتخابات.
 
فياض قدم ترشيحه للإنتخابات النيابية قبل العاشر من نيسان. برأيه يجب إعلان فوز كل مرشح عن مقعد لم يترشح عنه أكثر من شخص. هو الآن بصدد إعداد ملف قانوني للمطالبة بهذا الحق. دعا كل من ترشح قبل هذا التاريخ إلى الإنضمام لخطوته. "أنا معك دخيلك ما تنساني"، قالت له إحدى المرشحات. "هناك خلاف في التحالف حول هذه النقطة فهي ستقسّم الأعضاء بين مستفيد وغير مستفيد"، شرح آخر.
 
فكرة التحالف هي فكرة مهمّة. هي مؤشر على تحوّل في فهم ناشطي المجتمع المدني لدورهم من مجرد أشخاص يؤدّون خدمات لوجستية إلى أشخاص يجب أن يشاركوا في الحياة السياسية. ولكن هذا التطوّر يجب ألا يبتعد عن الواقعية وألا يشط في فهم تركيبة المجتمع اللبناني.


فكلام من مثل أن "عصر اللوائح المعلبة والزعامات الفردية قد ولّى" يدلّ على سوء فهم لحدود الممكن. في إجابته على أحد الأسئلة، قال البعيني: "كل مرشّح منّا يحب أبناء طائفته ولكن سنترشح عن المقعد اللبناني". ابتسم أحد الأشخاص هامساً: "لا وجود لهكذا مقعد".

نشر في www.almodon.com في 15/4/2013 

الخوف من 13 نيسان



"إلحاقاً لبرقيتنا رقم 2668 تاريخ اليوم، أقفلنا شارع مار مارون في عين الرمانة بدوريتين لمنع مرور عناصر فدائية. ولكن سيارة فيات فيها مسلحون مرت عنوة ولم تمتثل، وما أن وصلت إلى منتصف الشارع المذكور حتى تبادلت إطلاق النار مع عناصر المحلة... ويوجد أوتوبيس بداخله عدد من القتلى والجرحى لم نتمكن من الوصول إليه بسبب إطلاق النار بغزارة... حالة الأمن مضطربة جداً ويمكن أن تجرّ البلاد إلى حوادث دامية... إنها تتضاعف تدريجياً وتتطلّب التدخل السريع لتطويق الحادث على مستوى عال... سنفيد".
 
هذا ما أبرقه آمر فصيلة الدرك في فرن الشباك، عبد الساتر، إلى القيادة العامة لقوى الأمن الداخلي في الساعة الرابعة عشرة من نهار الأحد 13 نيسان 1975. نستطيع افتراض أن هذه البرقية تشبه مثيلاتها التي تكتبها قوى الأمن الداخلي عن الحالة الأمنية المتوترة التي تشهدها مناطق لبنانية عدّة من حين إلى آخر.
 
في نهار 13 نيسان، أدت حالة الأمن المضطربة إلى ما حذّر منه عبد الساتر في برقيته. اليوم، لا أحد يعلم متى يتحول أحد النهارات التي تشهد اشتباكات بين اللبنانيين إلى يوم نؤرخ فيه، رسمياً، لحربنا الآتية. ولا أحد يعرف كيف لأننا لا نمتلك العلم الوضعي الذي يسبر غور "المضاعفة التدريجية "(بحسب تعبير عبد الساتر) للحوادث.
 
مع كل حدث أمني يشهده لبنان تخرج إلينا روايات متضاربة هدفها لوم بعض المشاركين في "المعارك الصغيرة" وتبرئة البعض الآخر. معرفتنا حول الأحداث الأمنية التي نشهدها في حاضرنا تشبه معرفتنا عن نهار 13 نيسان: وقائع معروفة، تفاصيل غير متفق عليها، معلومات يدلي بها طرف واحد وينكرها غيره.
 
من المفيد استعادة "وقائع" ذاك النهار المشمس لكي نحذر من أشباهه. الوقائع المتفق عليها هي أنه في صباح ذاك اليوم كان رئيس حزب الكتائب بيار الجميّل يشارك في افتتاح كنيسة للروم الكاثوليك في عين الرمانة. وفي تلك الأثناء اقتحمت سيارة، من طراز "فيات"، أخفيت لوحتها بشعارات فلسطينية، حاجزاً لقوى الأمن الداخلي، ومرّت مسرعة من أمام الكنيسة. أطلق مسلّحون كانوا يستقلونها النار على الناس المحتشدين ما أودى إلى وفاة جوزيف أبو عاصي، المرافق الشخصي للجميّل، وثلاثة أشخاص آخرين.
 
بعد حوالى ثلاث ساعات كانت مجموعة من المشاركين في احتفال بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لغارة نفذتها وحدة كوماندوس من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة في الخالصة، تستقل حافلة للعودة من مخيم صبرا إلى مخيم تل الزعتر. قرابة الساعة الثانية من بعد الظهر، عبرت الحافلة بركابها الثلاثين منطقة عين الرمّانة. كانت عناصر حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار مستنفرة على أثر حادثة الصباح. وقعت الواقعة. أطلق المسلحون المنتشرون النار بغزارة على ركاب الحافلة (الفدائيين بحسب وزير الإعلام اللبناني والمدنيين بحسب بيانات المنظمات الفلسطينية). دقائق قليلة كانت كافية لسقوط تسعة وعشرين راكباً قتلى.
 
حتى الآن لا تزال علامات استفهام عدّة تحيط بما جرى. علامات استفهام لها نظائر في ما نختبره من حين إلى آخر كحادثة عرسال، حادثة الشيخين، كل يوم طرابلسي... والتي كلما قرأنا عنها زادت الأحجيات التي تحيّرنا.
 
في 13 نيسان، لم تكن سيارة الفيات السيارة الأولى التي حاولت الدخول عنوةً إلى عين الرمانة. قبلها بحوالى الساعة حاولت سيارة من طراز "فولسفاغن" تقل رجلين فلسطينيين الاقتراب من المحتفلين بافتتاح الكنيسة. تخطى السائق حاجزاً للكتائب، فأطلق المسلحون النار على السيارة وأصابوه بيده. نقل الجريح (لبناني وينتمي إلى إحدى المنظمات الفدائية، على ما قال وزير الإعلام) إلى مستشفى القدس ولكنّه اختفى من المستشفى في اليوم التالي!
 
لم ينج من ركاب الحافلة سوى سائقها مصطفى حسين ورجل دين اسمه محمد علي محسن وفلسطيني يدعى شريف زيدان دخلول. الناجون أكدوا لقوى الأمن الداخلي أن الحافلة سلكت طريق عين الرمانة بطلب من أحد أفراد الشرطة البلدية الذي كان واقفاً على مفترق شارع غنّوم – مار مارون وشارع أسعد الأسعد. بحثت قوى الأمن الداخلي عن هذا الشرطي ولكنها لم تتوصّل إلى معرفة هويّته وبقي "لغز" تواجده وأوامره بلا حلّ!
 
من غرائب أحداث 13 نيسان أن القوى الأمنية اللبنانية كانت تقدّر مسبقاً حساسية ذاك النهار الذي يشهد احتفالين لطرفين متنافسين في منطقتين قريبتين إحداهما للأخرى وفي مرحلة تشهد انقساماً سياسياً حاداً. إنطلاقاً من هذا التقدير، وقّعت اتفاقاً في الثاني من شهر نيسان مع أربعة من ممثلي المنظمات الفلسطينية بينهم أبو حسن سلامة، ممثلاً لحركة فتح، قضى بعدم مرور المواكب المسلّحة في عين الرمّانة في 13 نيسان.
 
في 14 أيار 1975 كان الحادث قد أنتج مفاعيله. اجتمع في القصر الجمهوري رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والسفيرين المصري والسعودي. خلال الاجتماع، عرض فرنجية نسخة من محضر الاتفاق المذكور. ولكن عرفات أنكر معرفته بوجود الاتفاق!
 
تلقائية أم مفتعلة، لا نملك الإجابات عن حوادث 13 نيسان. السؤال نفسه نطرحه باستمرار في حاضرنا.
 
لكي تندلع، لا تنتظر الحرب معرفة الأطراف المتحاربة لكافة ملابسات الحادث الذي سيؤرخ بدايتها. ما يؤدي إلى الحرب هو الاستعداد لخوضها، استعداد تصعب نسبته إلى زمان محدّد بدقة. قد نلجأ إلى التواريخ الرمزية، ولكن في الحقيقة، تكون الحرب قد بدأت منذ وقت طويل على هيئة توترات وانقسامات وحوادث متفرقة.

نشر في www.almodon.com في 13/4/2013