في ذكرى مرور أسبوع على وفاة أحد
المواطنين الجنوبيين حضر الشيخ وحضر النائب. كلّ منهما كان قد حجز مكاناً له ليخطب
في جموع المعزّين. سبق الشيخ النائب إلى منبر الخطابة وقال ما قاله. وحين لحق به
النائب، بادر المجتمعين بالقول: "بما أن الشيخ لم يترك لي شيئاً لأقوله في
السياسة سأتحدث في الدين. بسم الله تعالى...".
في هذه المناسبات المحدودة في الزمان
والمكان، وبعيداً عن "إزعاج" توثيق وسائل الإعلام لما يقال، تخرج الأحاديث الأكثر حدةً. هي
أيام الآحاد في القرى الشيعية. يجتمع الأهالي في الحسينيات في مناسبات الذكرى
السابعة أو الذكرى الأربعين لوفاة أحد أبناء القرية. لم تعد تقام هذه المناسبات
إلا في نهاية الأسبوع فالتضامن بين الناس خفّ ولم يعد ممكناً إبداؤه سوى في أيام
العطلة.
اختصاراً يقول الناس "أسبوع
المرحوم". بين بيئة وأخرى تختلف دلالات هذه الكلمة وإن كانت جميعها تشترك في
فكرة أداء واجب العزاء تجاه ذوي الميت. يمكن أن تقتصر المناسبة على تلاوة آيات من
القرآن، كما هي عادة أهل السنّة (المناسبات التي تقام في "الجمعية الإسلامية
للتخصص والتوجيه العلمي" مثالاً). ويمكن أن يتضمّن الأسبوع تلاوة آيات قرآنية
وقراءة عزاء، وهذه هي الحال في البيئات الخارجة عن سيطرة مفاهيم حزب الله وحركة
أمل (المناسبات
التي تقام في قاعة الاحتفالات في مجمع الإمام شمس الدين مثالاً). بعض العادات
الدارجة تضيف إلى العنصرين الأخيرين خطبة لرجل دين.
أما "العادة الطاغية عند الشيعة
اليوم" فهي أن تجتمع العناصر الثلاثة المذكورة وأن يضاف إليها عنصر رابع هو
خطبة يلقيها رجل سياسة، وفي حال غياب الأخير يتحدث رجل الدين في الدين وفي
السياسة. رجل السياسة هو عادةً أحد نواب المنطقة. كثيراً ما يتفاجأ ذوو الميت
بحضور نائب دون أيّة معرفة سابقة به. ولكن في العادة يكون حضوره "نوعاً من
التكريم" لعائلة الميت أو نوعاً من "مقابل للوفاء السياسي". بين
قرية وأخرى تختلف الأعراف. ولكن المنبر الوحيد الذي يخاطب حزب الله وحركة أمل
الناس عبره هو منبر الحسينيات وبالتحديد في أيام الآحاد.
تشهد منابر الحسينيات صراعاً خفياً
بين رجال الدين ورجال السياسة. الصراع هو على الأسبقية في اعتلاء المنبر. بعض المشايخ يرفضون
أن يسبقهم السياسي في الكلام لأن معظم الحاضرين ينفضّ فور انتهاء كلمته. هؤلاء
عددهم يقل شيئاً فشيئاً. المسألة ترتبط بقوة حضور رجل الدين في قريته وفي وسط
عائلة الميت.
من منابر الحسينيات، يستمع الناس إلى
ما لا يستمعون إليه عبر وسائل الإعلام. هنا يكون "الدوز أعلى بكثير".
نواب حزب الله يبدأون حديثهم بالدين ثم ينتقلون إلى السياسة مازجين بين الإثنين في
"منظومة كلام ديني – سياسي". أما نواب حركة أمل فمعظمهم يكتفي بالحديث في
السياسة.
في إحدى المناسبات، استفاض أحد النواب
في نقد السياسة الأميركية وفي كيل الإتهامات للرئيس الأميركي باراك أوباما. ضاق
إبن المتوفى ذرعاً وفقد صبره فوقف وقال للنائب: "يعطيك العافية، بس والله أبي
لا يعرف أوباما".
حين لا يأتي أحد السياسيين يُكثر رجل
الدين من الحديث في السياسة ليعوّض غيابه. "أحياناً يقترب أحد أبناء الميت من
الشيخ ويقول له: مولانا اليوم سيأتي أصدقاء سنّة أو أصدقاء مسيحيون، لينبهونه من
التمادي في الكلام". يروي هذه الوقائع أحد الشيوخ ويعلّق: "هذا يعني أن
الحالة العامة هي حالة الحديث الذي يسبب الإثارة والحالة الخاصة هي حالة الحديث
الهادئ والمتّزن". الشيخ يضيف: "للأسف يستثمر معظم رجال الدين استشهاد
الإمام الحسين ووقائع تاريخية عدّة في اسقاطات على السياسة اليومية".
في الطائفة الشيعية شيوخ عقلاء يعملون
ليلاً ونهاراً على حض الناس إلى التقارب وإن على حساب بناء شعبية خاصة بهم. ولكن
العديد من الشيوخ يبثون التفرقة عن وعي أو عن غير وعي. أسباب كثيرة تدفع
برجال الدين المنتشرين في القرى إلى حد المزايدة في التحريض على السياسيين. يريدون
الظهور بمظهر الملكيين أكثر من الملك. هكذا يكسبون رضى الأحزاب السياسية المهيمنة
وعلى طريقهم، يكسبون إعجاب الناس! ولا ننسى أن رجل الدين ليس كائناً فضائياً بل هو
ابن بيئته والبيئات اللبنانية لم تعد تنتج متطرفين.
ليس رجال الدين هم المتطرفين. المجتمع
كلّه متطرف. كل البيئات المغلقة، في كل الطوائف اللبنانية، مليئة بالتطرف. الناس
يتفاعلون مع الخطابات التي تنتقد "الآخرين" بحدة مازجة السياسي
بالطائفي. هذا ما تستحسنه "عقول الناس" من كلام. "الشيخ الذي يريد
بناء قاعدة شعبية يخاطب الأحقاد الدفينة في الإنسان"، يقول أحد المشايخ.
(نشر في www.almodon.com في 21/3/2013)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق