صورة المدونة

صورة المدونة

الخميس، 11 أبريل 2013

"فلسطين قبل 1948": صور لعالم تعرض للتدمير



"فلسطين قبل 1948 ليست مجرد ذاكرة". هذا هو عنوان معرض الصور الفوتوغرافية للمصوّر خليل رعد (1854-1957) الذي تستقبله "مؤسسة رفعت النمر الاجتماعية" القائمة في كليمنصو ـ شارع جوستينيان ويستمر حتى 14 نيسان 2013.

يقام المعرض بمناسبة اليوبيل الذهبي لـ"مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، وتتولى تنظيمه الفنانة الفلسطينية والمحاضرة في الفن والعمارة الإسلامية فيرا تماري. وفيه صور يعود تاريخها إلى بدايات القرن العشرين التقطها بعدسته أول مصور عربي في فلسطين. هي صور من ذاكرة شعب صار بلا أرض.

 
رحلة في الماضي
في تنقّـلك بين صورة وأخرى من أعمال خليل رعد، يتسرّب إليك شعور بأنك تسافر في الزمن نحو الماضي. تشعر وكأنك تقلّب صفحات ألبوم قديم اكتشفته فجأة بعد أن كان أحدهم يخفيه في مكان سرّي.

تجول في المعرض باحثاً عن مشاهد تصدّق كل ما تناهى إلى سمعك عن فلسطين، قبل "نكبة" 1948. تنجح أحياناً وتفشل أحياناً أخرى. ومرّات تفاجئك إحدى الصور وترسم في رأسك علامات تعجّب ستبحث لاحقاً عن وسيلة لمحوها. 


من صورة إلى أخرى، تبدأ بإعادة بتركيب الفضاء التاريخي ـ الاجتماعي لفلسطين. هنا سنابل قمح سمراء تصل حتى كتفي رجل أسمر يعبر الحقل. هناك البرتقال الذي تسمع حكاياته في الأناشيد الشعبية. وإلى جانب بساتين يافا مزارعون يقطفون أشجار الزيتون وصيادون يلتقطون أسماكاً وهبتهم إيّاها بحيرة طبريا...

في أسواق المدن الفلسطينية تمرّ بالقرب من صائغ مزهوّ بما يعرضه وتعبر من أمام دكان صرّاف، ويسعدك النظر إلى "صندوق الفرجة" من دون أن تستطيع تخيّل ما كان من الممكن أن يحتوي عليه. في كل الحالات لن تكون تلك الصور أكثر جاذبية من مشاهدة محطة القطار في مدينة القدس...

تكتسب أعمال رعد قيمة عالية، لا لغنى موضوعاتها وتنوعها فقط، بل أيضاً لقيمتها الفنية وجماليتها. في العالم الذي تنقلك إليه صور رعد تتغيّر طبيعة إدراكك للأشياء. حس الإدراك "لا تحدده الطبيعة فحسب، بل أيضاً الأوضاع التاريخية"، قال يوماً والتر بنيامين.

أرشيف النسيان
ينقلنا المعرض إلى عالم رواية بصرية صفحاتها مجموعة تضم 75 صورة تصف مختلف جوانب الحياة في فلسطين، خلال فترتَي الحكم العثماني والانتداب البريطاني. وتأخذنا مجموعة أخرى تتضمن أكثر من 80 "بورتريه" فردي وجماعي، أفرَد لها حيّزاً خاصاً في المعرض، إلى عالم الأشخاص الذين كانوا يعيشون في ذلك الزمان على أرض فلسطين.

صور رعد المعروضة تعكس مختلف نواحي العمل الذي قام به أول مصوّر عربي. تضعنا صوره أمام أرشيف خطير يجمع مناظر طبيعية، مشاهد من الحياة اليومية في المدن والقرى، أحداث عامة، أحداث دينية، مواقع دينية وأثرية وصور لشخصيات بارزة.

جزء من أعمال رعد يكشف تأثره، في بداياته على الأقل، بالأنماط الغربية التي أرساها المصوّر الفرنسي فيليكس بونفيس في عمله المرجعي عن فلسطين خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
هكذا نجد أنفسنا أمام مشاهد "توراتية" يصممها رعد بشكل يرتب الأشخاص في وضعيات تحيل إلى روايات العهد الجديد: ميلاد المسيح، الهروب إلى مصر، قدوم المجوس... ونقابل أشخاصاً يرشحون سحراً شرقياً بفعل مظهرهم واللباس التقليدي الذي يرتدونه.

 
يرى البعض أن رعد غارق في الرؤية الاستشراقية. فالباحثة أناليس مورز تعتبر أنه "استخدم في تقديمه للفلسطينيين العرب، معظم الأحيان، الدلالات التوراتية التي اختزلت حياتهم في لحظة واحدة من الزمن".

صور المناظر الطبيعية التي التقطها رعد تأتي غالباً خالية من الأشخاص وتنقل الناظر إلى أجواء رومانسية. لكن هناك صور لمشاهد خارجية تبرز وجهاً آخر لفلسطين وتعكس مختلف جوانب الحياة اليومية الفعلية للفلسطينيين في الأرياف والمدن على السواء.

في بداية الحرب العالمية الأولى، استطاع رعد الوصول إلى الدوائر الرسمية والمنشآت العسكرية العثمانية، وأعطي حرية الوصول إلى جبهتي مصر وفلسطين. التقط صوراً كثيرة لكنها اختفت. البعض يعتبر أنه أخفاها عن قصد كي لا يتعرض للمساءلة من قبل البريطانيين.

سلطات الانتداب البريطاني، من جانبها، كلفت رعد بمهمات تصويرية، لكن علاقته معها لم ترقَ أبداً إلى مرتبة الحميمية التي نشأت بينه وبين العثمانيين. ورغم القول إن عمله خلال فترة الانتداب كان يتجاوب مع مشاعر الجماهير المعادية للاحتلال، إلا أنه يلاحَظ غياب صور الثوار الفلسطينيين عن مجموعات رعد.

الذاكرة المناضلة
يعتبر رئيس لجنة الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية كميل منصور أن "المعرض، كونه مستقى من أرشيف المؤسسة، يشير إلى جهدها الدؤوب في حفظ الذاكرة الفلسطينية عن طريق اقتناء ما هو أصلي وأصيل، من وثائق وخرائط وأفلام ومؤلفات ومذكرات شخصية وعائلية وصور".

تمتلك مؤسسة الدراسات الفلسطينية مجموعات من الصور المحفوظة تضم أكثر من 10 آلاف صورة، تمتد من أواخر القرن التاسع عشر حتى الزمن الحديث. أهم هذه المجموعات هي مجموعة خليل رعد التي تضم أكثر من 3000 صورة تمتد من أواخر القرن التاسع عشر حتى عشية حرب 1948. ومن المجموعة الأخيرة تم انتقاء صور المعرض.

إلى جانب الصور الفوتوغرافية، يستقبل المعرض أعمالاً فنية تفاعلية تحاول تقديم قراءات معاصرة مستوحاة من أعمال رعد. فنانون بصريون وكتاب يبحثون في أيقونات رعد عن قضايا التغيير والترابط مع فلسطين بماضيها وحاضرها. يشارك في هذا التفاعل الزماني المكاني الكتّاب هدى بركات ورجا شحادة وعدنية شبلي ورشا سلطي والفنانون يزيد عناني وفلاديمير تماري ومروان رشماوي وعصام نصار.

بعض صور سيبقى عالقاً في ذهنك وصور أخرى ستنساها. ولكن فكرة مؤكدة ستهاجمك فور بدء ترحالك بين الصور وستبقى تراودك. لم تكن هناك أرض بلا شعب ولكن كان هناك شعب صار بلا أرض.
 
سيرة خليل رعد 1854-1957
خليل رعد هو من المصورين "المحليين" الأوائل في فلسطين، وأغلب الظن أنه العربي الأول الذي امتهن التصوير (حرفة كان يحتكرها الأرمن). ولد رعد سنة 1854 في قرية بحمدون اللبنانية، وانتقل مع عائلته في صغره إلى القدس. وهناك تعلّم مهنة التصوير على يد غرابيت كريكوريان.

سنة 1890، أنشأ رعد "ستوديو" خاصاً به في شارع يافا، قبالة "ستوديو" معلمه السابق، فانطلقت منافسة حادة بين الرجلين لم تتوقف إلا سنة 1913 عندما نشأت شراكة بين الإثنين على أثر المصاهرة بين العائلتين. نجح المعلم والتلميذ في عقد تفاهم تولى رعد بموجبه التركيز على تصوير الفعاليات العامة وأحداث القدس وفلسطين، في حين تولى كريكوريان تصوير البورتريهات. هكذا بدأ انخراط رعد في التصوير الفوتوغرافي على الصعيد العام.

في الأشهر التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، سافر رعد إلى سويسرا لدراسة تقنيات التصوير الجديدة التي ابتكرها المصور السويسري كيلر، ثم عاد ليمارس عمله في فلسطين.
فصلت الأحداث التي دارت سنة 1948، بين رعد والـ"ستوديو" الخاص به والواقع في منطقة باب الخليل. كاد يفقد جزءاً كبيراً من أرشيفه الغني لولا جرأة شاب إيطالي من أصدقائه عمد، خلال عدد من مهمات الإنقاذ الليلية، إلى تهريب الصور السلبية )نيغاتيف(.
خسر رعد وعائلته الـ"ستوديو" والمنزل. هربوا إلى بحمدون، مسقط رأسه. لكن عندما وضعت الحرب أوزارها، عاد إلى المدينة التي أصبحت مدينته وهناك توفي سنة 1957.

(نشر في now.mmedia.me في 23/3/2013)
الصور لخليل رعد

ليست هناك تعليقات :