أبرز سمات الدولة اللبنانية هي خضوعها
لنظام تحدد شكله توازنات الأمر الواقع. تسير هذه الدولة الصغيرة مترنحة على هدى
توازن دائم التغيّر بين القوى السياسية ـ الطائفية بقواعدها الاجتماعية وتحالفاتها
الخارجية. أما
الدستور والقانون فإما ينتهكان أو يستخدمان كحجة لتبرير إرادة الأقوى. لبنان هو دولة الأمر الواقع. لا صوت
يعلو فوق صوت القوة العارية.
كل شيء في لبنان يتم ترتيبه وفق
توازنات الأمر الواقع التي لا تحتمل ثقلي الدستور والقوانين وتعقيداتهما. القوة هي
المشرّع الأعلى. من هنا تأتي مقولة "رفع الغطاء السياسي" عن المخلين
بالأمن كلما أرادت القوى الأمنية ممارسة وظيفتها. الأمثلة أكثر من أن تحصى. مجلس
النواب لم يقر قانون الموازنة لسنوات عدّة خلت فتحولت وجهة الإنفاق إلى وجهة نظر
المسيطر. أحياناً
تدخل قوانين ضرورية لتنظيم المجتمع في سبات داخل أدراج مجلس النواب وأحياناً
يتناول النواب "حبات نشاط" ويهمّون إلى تغيير رأيهم في قانون أصول
المحاكمات الجزائية فيغيّروا ما كانوا قد أقرّوه قبل أيام.
للمصادفة، تأسست جمهورية الطائف على
توازن قضى بتفسير الدستور على قاعدة الأمر الواقع. ففي سنة 1989، حين علم رئيس
الحكومة الانتقالية الجنرال ميشال عون أن النواب اللبنانيين قرروا الذهاب إلى
مدينة الطائف السعودية وأن بساط الشرعية المسيحية سُحب من تحت قدميه أصدر قراراً
حلّ بموجبه مجلس النواب.
هكذا، وبعد نشوء جمهورية الطائف أثير
جدل دستوري حول حق مجلس النواب في الاستمرار في ممارسة مهامه ومنها انتخاب الرئيس
الياس الهراوي والتعديل الدستوري. كانت الجمهورية المولودة حديثاً مهددة بالطعن في
شرعية كل قرار تتخذه مؤسساتها. انتهى هذا الجدل بـ"فتوى" القانوني
الفرنسي جورج فاديل والتي نصت على أن قرار حلّ مجلس النواب باطل بسبب عدم إجراء
انتخابات نيابية خلال مدة زمنية معقولة وذلك انطلاقاً من مبدأ ضرورة استمرارية
المؤسسات.
إذن، الأمر الواقع، أي الفوضى الأمنية
آنذاك، هو الذي أدى إلى إبطال قرار ميشال عون بحل مجلس النواب. ملامحه رسمتها
المدفعية السورية وأسلحة الميليشيات الموالية لسوريا.
منذ الطائف إلى الآن، طالعتنا تفاسير
للدستور غريبة عجيبة لم تكن لتحظى بفرصة للنجاح لو لم تكن تعبيراً عن خطاب الأقوى.
الأمثلة كثيرة وأشهرها تفسير المادة 49 من الدستور (انتخاب رئيس الجمهورية) على
أساس عدم إمكانية انتخاب رئيس للجمهورية بالأكثرية المطلقة في دورة الاقتراع
الثانية إلا إن كان نصاب الجلسة يتشكل من غالبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
أثير هذا الجدل حين شارفت ولاية
الرئيس إميل لحود على الانتهاء. توازن القوى لم يكن لمصلحة الأكثرية البرلمانية بل
كان لمصلحة الأقلية. نجح القوي. قبل ذلك، كان كبير فقهاء حركة أمل الدستوريين
يُنظّر للعكس!
حين استقالة الوزراء الشيعة في
الحكومة اللبنانية اعتبرت قوى الثامن من آذار أن الحكومة فقدت شرعيتها لعدم تمثيل
القوى الشيعية الأساسية فيها. "أقفل" مجلس النواب وكان ما كان مما يذكره اللبنانيون. كل
اللبنانيين سمعوا "خبراء"
8 آذار وهم يتحدثون عن الفقرة "ي" من مقدمة الدستور والتي تنص على أن
"لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". لم يمر كثير من الوقت
حتى شكلت هذه القوى حكومة استبعدت عنها "تيار المستقبل"، ممثل الطائفة
السنّية الأساسي!
تمديدان لولاية رئيس الجمهورية حصلا
بعد اتفاق الطائف، في انتهاك فاضح لنص المادة 49 من الدستور. عدّل الدستور وفصّل
على قياسي كل من الرئيسين السابقين الياس الهراوي وإميل لحود. كان من الممكن إيجاد
نسختين مطابقتين سياسياً عن هذين الرئيسين ولكن القوي في الشرق لا يحب تغيير
الوجوه لأنه يكره فكرة تداول السلطة "الآثمة" الآتية من الغرب. شارك
تيار المستقبل في التمديد للحود وبعدها "أقلقنا" بمطلب استقالته.
حين انتخب الرئيس ميشال سليمان ضرب
الدستور بعرض الحائط. من جديد، لحق التشويه بالمادة 49. انتخب أحد موظفي الفئة
الأولى قبل "السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن
وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد". ولكن في هذه الحالة، كان الدستور قد
فقد رونقه. لم يكلف مجلس النواب نفسه عناء تعديل المانع الدستوري لانتخاب الرئيس!
كل القوى السياسية ساهمت في هذا التواطؤ على القانون الأسمى وفي ما بعد كلها كانت
تتحدث، في مناسبات مختلفة، عن احترام القوانين.
الآن تثار مسألة التمديد الجماعي، من
الضباط إلى المجلس النيابي إلى رئيس الجمهورية. سقط التمديد للواء أشرف ريفي، وسقط
البلد في الفراغ الأول. الآتي، على ما يبشر به سياق الأمور، وما تستعيده الذاكرة، لا
يشي بالخير.
(نشر في www.almodon.com في 29/3/2013)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق