مستهجناً "الهمجية
السورية"، احتار في انتقاء الأوصاف اللازمة لوصف ممارسات الجيش السوري. قال:
"لا أعرف هؤلاء البشر من أي عرق، ولا أعرف من أي جنس، ولا أعرف من أي
معدن!". إنه الجنرال ميشال عون. لا تخطئوا. لم يغيّر الجنرال مواقفه
السياسية. نحن نتحدث عن جنرال 14 آذار 1989 الذي أعلن "معركة التحرير" ضد الاحتلال
السوري.
من يستمع إلى "جنرال
الرابية" يستعصي عليه جمع ما يقوله الجنرال الآن مع ما كان يقوله قبل
24 سنة. اختلفت مواقفه كثيراً. حتى تشخيصه للنظام السوري تغيّر مع أن النظام ثابت
على حاله منذ 40 سنة. خرج الجيش السوري من لبنان ولم يعد بين النظام السوري وبين
اللبنانيين مشكلة. هكذا يبرر افتراقه عن "جنرال بعبدا". حجته منطقية ولا
يضربها سوى "احتقاره" توق السوريين إلى الحرية واختراق غزله بنظام البعث
للسيادة السورية.
الجيش السوري "هو جيش إرهابي مثل
المنظمات الإرهابية" والمرافئ غير الشرعية في لبنان هي "خط سرّي لنقل
الإرهاب إلى العالم"، وفي البقاع اللبناني تحتفظ سوريا "بمخيمات التدريب
للإرهابيين". هذا ما كان يردده "جنرال بعبدا". ربما كانت الصورة جليّة أمامه وحالياً،
عكّر جلاءها شيء ما. ولكن جلاء
الصورة كان متحققاً في 18 أيلول 2003، عندما أدلى "جنرال باريس" بشهادة أمام اللجنة الفرعية للعلاقات
الدولية في مجلس النواب الأميركي. حينها قال: "لا يمكننا بعقلانية ومنطق الفصل بين النظام
السوري والإرهاب. فسوريا
تؤمن الملاذ الآمن لعدد كبير من المنظمات الإرهابية".
الآن، اختلف الوضع. هذا ما يصرّ عليه
"جنرال الرابية" في مناسبات تتكرّر بتكرار إطلالاته. الآن، سوريا
"ستكون البلاد الّتي ستضعُ حدّاً للتطرُّف". يُلقي الجنرال على
النظام السوري مهمات مصيرية في لحظة الثورة السورية، عفواً، في لحظة
"التّحرّك التّخريبي في سوريا". حالياً، "إذا لم يوضع حدٌّ
للتطرُف، فإنّ هذا النّسيج الاجتماعي والثّقافي الّذي تكوّن بتطابق اختلاط
الدّيانتين المسيحيّة والإسلام، سيكون في طريق الانقراض، وهذا لن يحدث"، لأن
النظام السوري لن يسقط. لا تسألوا كيف ولماذا. الجنرال أخبر.
الجنرال أدرى ويعرف أن "تغيير
النظام في سوريا قد يقضي علينا وعلى لبنان لأن الأنظمة التي ستأتي تفكيرها يرجع
الى القرن الرابع عشر". هل سمعتم بالقرن الرابع عشر من فم الجنرال؟ عودة
سريعة إلى وثائق ويكيليكس تكشف لنا أن الجنرال يعتبر أن "العالم الإسلامي لا
يزال متمسّكا بقيم من القرن الرابع عشر". ربما يقصد أربعة عشر قرناً. ولكن
لا. الجنرال أدق.
"جنرال بعبدا" كان يقول "لديهم تقليد في سوريا...
سفهاء على طول الخط... إنهم يخدمون الصهيونية ويتهمونك بها على طول الخط".
"جنرال الرابية" يعتبر أن "الّذين يقومون بالعمل العنفي في سوريا
يتعاقدون مع أميركا في سبيل هذا الغرض، وقد ظهرَ قادتُهم على التّلفزيون
الإسرائيلي يعدون بالسلام". هل رأيتموهم أنتم؟ لا مشكلة. الجنرال رآهم
بالنيابة عنكم.
"جنرال بعبدا" كان يعرف أن "الضعيف لا يعلن حرباً
وإنما يقاوم". من بين أمانيه المتواضعة كانت أمنية وقوعه على "سابقة
تاريخية تقول إن محتلاً رحل من بلد من دون صدام مسلّح ومن دون دم". الحرية
كانت قيمتها أكبر من قيمتها في سوق هذه الأيام. "تحت بيروت هناك سبع وثماني
بيروت. فلتكن تاسع بيروت أيضاً. وماذا يمنع إذا بنينا واحدة إضافية أيضاً"،
رفع "جنرال بعبدا" رأسه وقال في خضمّ "معركة التحرير".
انحدرت قيمة الحرية مع الأيام. لا
يسأل "جنرال الرابية" ذاكرته عن سوابق لنظام ديكتاتوري سقط من دون صراع
مسلّح. يُخبرنا أن "الحريات الاقتصادية موجودة في سوريا" و"أن
المجتمع السوري يتمتع بالحرية الدينية والحرية الاجتماعية. أما الحرية السياسية
التي كانت هي المشكلة فكان ممكناً التوصل اليها بهدوء ومن دون اللجوء الى
العنف". لماذا يدفع السوريون ضريبة دم؟ غريب! "أي حقوق إنسان وأيّ بطيخ
فهؤلاء أجراء"، يقول لنا "جنرال الرابية".
لنكن منصفين بحق الجنرال. معه حق في
الخوف من قوى تعتبر أن "الدّيمقراطية هي ضدّ الشّريعة". الإنكار لا يفيد. ومعه حق
في تفضيل بقاء النظام السوري علمانياً لأن سوريا تضم العديد من المجموعات الدينية. ولكن... هذا شأن سوري يقرره السوريون.
الجنرال يحذرنا من أننا "لا نكون مرتاحين إن لم تكن سوريا مرتاحة، فكما كانت
هي قلقة ودخلت إلى لبنان، فهكذا سيحصل بعدها إن تطور الأمر". غريب هذا
المنطق! هل يقصد أن نضاله السابق ضد الوجود السوري كان غلطة؟ "سوريا لم تكن
مرتاحة"! كان علينا هدهدة أجهزتها العسكرية والأمنية في لبنان!
لعلّ قراءة الجنرال لشهادته أمام
الكونغرس مفيدة في ظل التغيرات التي تشهدها سوريا. حينها وقف "جنرال
باريس" وقال: "إن الأنظمة الدكتاتورية التي تزرع في شعوبها الإحساس
العارم بالعجز بهدف الحؤول دون إمكانية أي تغيير من خلال الديموقراطية أو السبل
السلمية هي سبب الأصولية". لم يكتف بذلك. أردف: "إن الطريق الوحيد الناجع
والسبيل الدائم لمنع انتشار الأصولية يكمن في عدم اختيار الديكتاتورية بديلاً
للأصولية، بل في تأمين بديل ثالث هو الديموقراطية".
(نشر في www.almodon.com في 14/3/2013)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق